في الكراس التقليدي الذي توزعه إدارة المسرح القومي على رواد مواسمها المسرحية، قرأت كلمة لأسعد فضة، مخرج مسرحية يوسف مقدسي – دخان الأقبية – التي يقدمها المسرح القومي في موسمه الحالي يقول فيها أن الدخان المقصود ليس دخان الأقبية المألوف وإنما هو دخان رواسب الزمن التي لصقت بأشخاص المسرحية..

إذن.. بالمسرحية كما يؤكد المخرج- ولا أدري إذا كان هذا زعم المؤلف، إن المسرحية- تطرح أمامنا هذا الصراع الطبقي لأناس ظلموا وذلوا حتى المهانة، والكل يبحث عن خلاص ويتساءل: أين الخلاص.. أين الخلاص؟

وهناك فتاة صامتة في المسرحية، خرساء، شخصية الخادمة، جزم المخرج أنها رمز للطبقة العاملة في مسيرتها التاريخية الطويلة وقد حبست إمكانياتها ولم تستطع أن تعبر عن نفسها..

    • من هنا كان التساؤل: هل هذا حقاً ما أراد المؤلف أن يقوله في – دخان الأقبية – أم أنه اجتهاد ورأي شخصي من المخرج؟

سأعترف أولاً بأنني، وبالرغم من كل شيء، أعتز بالإنتاج المحلي، وأحس بالفرح وأنا أرى الإعلانات تقول إن مسرحنا يعرض مسرحيات من إنتاج كاتب من بلدنا بعد أن ظل هذا الكاتب وأقصد كل كاتب محلي سنين طويلة في زوايا الإهمال والنسيان..

وسأعترف أيضاً بأن هذه المسرحية أثارت كثيراً من التعليقات، ولا أقول الجدل، لكونها تفتعل الآراء والمواقف والشخصيات، وتضع خيوطها بين الطرح الذهني، وحدية الواقع، وتشويه الرمز..

وفي نقاش مع أكثر من عشرين من الكتاب والنقاد والزملاء الصحفيين، بالإضافة إلى المتفرجين، كان في الآراء إجماع أن الذي أساء إلى هذه المسرحية هو طريقة كاتبها في ترقيعها بخليط من المواقف والأساليب التي تزاحمت في ذهنه من خلال مطالعاته للمسرح العالمي، إنها أطراف التعليقات حول هذه المسرحية إنها خليط من عطاء كاتبها ومن تينسي ويليامز وأوكيسي وأونيل وكامو وبتهوفن – موضوع أحد سينفونياته – وطاغور وحتى ممدوح عدوان..

هذا الرأي لا أقف عنده كثيراً، بل إن واجب كاتبه أن يجابهه بالرفض أو الاعتراف أما أنا فأقف أمام المسرحية على أنها شريحة من حياتنا في مكان معين فهمت من المسرحية أنه محافظة اللاذقية، وفي زمان معين، فهمت من المسرحية أنه مرحلة ما بعد الاستقلال وما قبل الثورة..

الفكرة الرئيسية التي تطرحها المسرحية هي محاولة تصوير واقع التفاوت بين الإقطاعي أو الثري، أو كما أسماه المؤلف – السيد الكبير – وبين بقية أهل القرية أو المدينة الدراويش بما فيهم شخصية العجوز الذي لم تقل لنا المسرحية ما هي طبيعة عمله في دار السيد الكبير مدة عشرين عاماً، هل هو خادم أم تابع أم ماذا؟ إذ إننا لم نره إلا جالساً يشرب الخمر، أو ذاهباً إلى الحانة، أو ملاطفاً للخادم الفتاة، أو متفلسفاً يلقي العظات..

هذه المحاولة فشلت في أن تأخذ ضفة الصراع الطبقي، خاصةً إذا قبلنا – جدلاً – رأي المخرج الذي رمز بالفتاة الخرساء لـ – الطبقة العاملة في مسيرتها التاريخية -.. وبغض النظر عن الرمز المهزوز لسبب هذا الصراع وهو رؤية ابن السيد الكبير للنساء الفقيرات وهن يتعرين في بيوتهن من موقفه العالي على السطح، فإن هذا السبب، رمزاً وواقعاً، سبب تافه لفكرة الصراع الطبقي، وهل تنعدم هذه الفكرة إذا كان الذي كشف عري السيدات إنساناً آخر غير ابن السيد الكبير؟

بالمناسبة، أذكر أن وكالة سانا للأنباء وزعت قبل يومين خبراً عن بريجيت باردو وزوجها تتهم فيها مصوراً بأنه التقط لها ولزوجها صورة شبه عارية وهما في دارهما.. والمحاكم الآن مشغولة بهذه الحادثة كما شغل بها مسرح القباني وهو يؤكد لنا أن ما يقوم على خشبته هو تصوير للصراح الطبقي عندنا بين الكادحين وبين الفئة التي كانت تستغل جهودهم وفقرهم وموقعهم الأدنى الذي تطل عليه من عل..

وفقر الرمز الذي يلبسه المؤلف لإبعاد هذا النوع من الصراع المطروح هو الذي جعل المواقف الدرامية في المسرحية – مسطحة – إن جاز التعبير، وجعل صورة الصراع الذي خاضه الكادحون في بلدنا بحق، يبدو هنا مهزوزاً باهتاً بعيداً عن كل معطيات مراحل النضال السلبي ضد استغلال السلطة وأذنابها من أمثال – السيد الكبير -..

خاصة إذا عدنا إلى تاريخ نضال الطبقة العاملة التي لم تكن صامتة يوماً رغم القهر الذي فرض عليها، بل إنها كانت تعلن مواقفها النضالية وتعيشها بحرارة وصدق في الحقول والمعامل، في المدن والأرياف.. ولولا تعاظم هذا الصراع لما استطاعت القواعد العمالية والفلاحية أن تحقق انتصاراتها على مواقع الاستغلال والسلطة التي كانت تقف ضد إرادة الجماهير..

إن في مسرحية يوسف الكثير من اللقطات والمواقف الذكية والفنية والأصلية، وهي تؤكد أن في أهابه كاتباً يستطيع، بقليل من التواضع والاستئناس بالآراء الصادقة الموضوعية أن يتخلص من الضبابية المهزوزة في طرح الفكر، ومن هذا التفاوت المريع بين الجمل والمقاطع في الأسلوب، حتى يستطيع أن يمسك بناصية الموضوع بثقة، فلا يضيع بين ترادف الرمز والواقع، فتأتي شخصياته متناقضة الأبعاد، كشخصياته متناقضة الأبعاد، كشخصية أم الفتاة في المسرحية التي تتحدث خلال عشر دقائق بشخصيتين واحدة منهن شخصية سيمون دي بوفوار والثانية شخصية حفيظة بنت الشريبيشات..

    • في الإخراج:

من السمات البارزة لإخراج أسعد فضة الذكاء في تحريك الشخوص على المسرح، بحيث يتحررون من مواقف الدمى ويحققون شخصياتهم في المسرحية بأداء صادق..

وفي هذه المسرحية التي تطول فيها المنولوجات الفردية، تتوضح براعة المخرج، ولاسيما بالنسبة للمشاهد التي يقدمها هاني الروماني – العجوز – ولكن هناك مواقف كانت مهزوزة حتى لكأنها مشاهد كوميدية، وهي مشاهد محادثة الفتاة المختبئة خلف الباب خجلى من مشاهدة السيد الصغير لجسدها، وذلك عندما يحادثها خطيبها بذلك بالنداء المضحك وهو يقول: يا حبيبتي.. كما كنا نتوقع أن يستغل المخرج شخصية رياض شحرور – الجار – في تعميق تقديم أنموذج الرجل الحمش المنفاخ الفارغ..

وشخصية المختار الذي يلجأ حتى في حركاته إلى المداورة العشائرية، وكذلك شخصية بهاء سمعان – الجارة – فهذه نماذج حارة من واقعنا الاجتماعي كان يجب ألا يكون تقديمها هامشياً وضئيلاً أمام الأنموذج الغريب، أنموذج الشيخ العجوز الذي أرادوه أن يقول كل شيء وإن يفعل كل شيء، فضاع بين مجموعة الأقوال والأفعال، ولولا براعة شخصية هاني الروماني بالذات لبدا أنموذج العجوز في واقع غير مرض.. أما مسؤولية هذا برأيي فيتقاسمها المؤلف والمخرج معاً..

    • أما عن التمثيل:

فالظاهرة البارزة في موسمنا المسرحي هذا العام أن النصوص التي قدمت حتى الآن هي التي ظلمت الممثلين وجعلتهم في مواقف لا يحسدون عليها.. بعضهم أعطى، وبعضهم تلكأ، ولكن المتفوق والمتميز كان مفقوداً، فباستثناء هاني الروماني، وأحمد عداس وثراء دبسي فإننا لا نملك إلا أن نقول للباقين – الله يعطيهم العافية –

كلمة أخيرة، قبل دخولي عرض المسرحية قال لي أحدهم: هذا – الدخان – مثل دخان – النوع الخامس – الذي كان يباع في المحافظات الفقيرة..

بعد حضوري عرض المسرحية، وجدت أن صاحب الرأي كان متجنياً فالمسرحية يمكن أن نضعها في خانة – طاتلي سرت غليظة

جان الكسان.