الفقيه العصفور.. وسيلة كشف.. فقط!

بوسع العاملين بالمسرح في بلادنا تحقيق قدر معقول من النجاح إذا ما عقدوا العزم فعلاً على تجشم العناء ومغالبة الصعاب في سبيله.

وطريق النجاح وحده كفيل بتحقيق الصلة المتينة بين المسرح وجمهوره، وبما يضمن – بالتالي – توصيل الأهداف المنشودة. والنجاح الذي نعنيه هو التزام الجودة في جميع جوانب العرض المسرحي، الجودة التي تتعانق فيها الحرفية المسرحية. وهو فهم يخالف ما هو سائد حالياً لمعنى كلمة (النجاح) التي يقصد بها الجري وراء محاكاة رغائب الجمهور واستغلال عواطفه الساذجة، واستجداء أكبر كمية من صرخات التشجيع الهستيرية الجوفاء، ورنين الأكف الفارغة من الإحساس والمعنى.. هذا النجاح الذي يؤول عاجلاً أو آجلاً إلى التلاشي والانمحاء الكلي من ذاكرة الخلود..

وفعل مسرح الجزيرة في محاولته الأخيرة مسرحية (السعد)، قد وعي الدرب الصحيح ووضع خطواته على طرف بدايته: فاختيار النص، والاستعانة بالخبرة الإخراجية المتمرسة – أسعد فضة – والتعاون مع زملاء مسرحيين من فرقة أخرى كل تلك مؤشرات مضنية في مسيرته، وتشكل في مجملها قلة موفقة من دائرة الارتجال إلى مجال العمل الجاد المثمر..

    • ماذا نفهم من مسرحية (السعد)؟

إنها مسرحية ذات بناء كوميدي يستبطن المأساة، فكرتها، هي حكاية الطموح الإنساني حين ينحرف إلى طريق مغرية ولكنها غير سليمة، سرعان ما توصله إلى نهاية مسدودة تؤدي به إلى مأساة.. يقول بطل المسرحية في النهاية (أيتها الصدف الغبية ابتعدي عني لقد سئمتك ابتعدي عني لقد خدمتني بما فيه الكفاية، وكنت فقط أود أن تساعديني فإذا بك تقتلين طموحي وتشلي عزيمتي، ابتعدي عني يا قاتلة الطموح.. يا مبيدة الهمم يا مخذلة النفوس..

هذا الطموح الذي يحيطه عالم السذاجة والغباء ويغريه ليلعب بوجهي المصادفة. المصادفة التي يخلقها هو بخبرته وذكائه وتوقعه المرهف، والمصادفة التي تخلقه دون أن يكون له يد في وجودها. وفي كلتا الحالتين يكون عالم السذاجة والغباء مسئولاً عن وجودهما وإتاحة المجال لهما لممارسة ألاعيب الغرابة والإدهاش.

أمثلة للوجه الأول للمصادفة:

    • يقول الفقيه عصفور (الشخصية المحورية في المسرحية): “. فقد رأت زوجتي وكانت تشتغل في بيت (الباشا) الغزال الذي ابتلع عقد ابنته”..
    • ويقول أيضاً: “وسؤال (الياقوت) لا يحتاج إلى تفكير كبير للإجابة عليه”.
    • ويمكن أن يدرج مصادفة عثور عصفور على الكنز ضمن هذا الوجه، إذ يعرف عصفور نوعية حاشية (الباشا) التي يلمح كثيراً في حواره عن انتهازيتها وعدم أمانتها، كما أن اختفاء الخليفتين والحاج فضول عند سرقة الكنز ما يجعله يتأكد أن اللصوص هم من حاشية (الباشا) وقال معلقاً على اختفاء فضول: “أخشى أن يكون هو المختطف لنفسه.” فهذا يعد من باب التوقع الذكي الذي يهيئ لوجود الصدفة.

ومن أمثلة الوجه الآخر للمصادفة:

    • يقول الفقيه عصفور: “واستعملت الرمز من أناس لا يشعرون بالوخز. وكانت صدفة إذ وجدت الخوابئ تحتوي على عسل وسمن وقطران”.
    • ويقول أيضاً: “وكانت مفاجأة مذهلة إذ وجد الكنز بمجرد قطع لسانه”.

ويقوم الصراع في المسرحية بين هذا الطموح المزود بنوعي المصادفة المتمثل في شخصية (الفقيه عصفور) وعالم الغفلة والغباء المتمثل في (الباشا) وحاشيته.

ويتم الاحتكاك بينهما على مستويين يتعاقبان بانتظام، كل مجابهة تليها مصالحة، حتى يصل الموقف الدرامي إلى حد التفجر، وتكون ذروته المجابهة الضدية القاسية، التي تؤدي إلى مأساة الطموح.. الطموح الذي سنجده آخر الأمر منحرفاً مضراً بكيان الشخصية، وغامضاً في إعطاء ملامح فكرية أصلية لها.

ومن خلال هذا الفهم يصبح دور عصفور مشحوناً بالحيوية والحركة، ومركزاً لقوى الفعل الدرامي، وكاشفاً في تحريكه للصراع، لنفسه من جهة ولمحيطه من جهة أخرى..

    • من هو الفقيه عصفور؟

يكشف لنا الفقيه عصفور في آخر المسرحية عن نفسه قائلاً “فلست عالماً ولا حكيماً ولا عبقرياً.. أنا عالم لغة بسيط وكل معارفي محدودة جداً جداً.. أنا مشعوذ بالإكراه في عالم كله سذج ومغفلون..”. إنها فكرة عصفور عن نفسه، أي الحقيقة مفصولة عن محيطها، وليست فكرته داخل عالم السذج والمغفلين، أي الحقيقة منعكسة من محيطها.. وإن مطلوب الصفات في ملامح شخصيته في المسرحية ولكن بمفهوم السذج والمغفلين للحكمة والعبقرية.. ولخصها المؤلف في كلمة واحدة هي (الشعوذة) وبهذا قدم من خلال التلاعب اللغوي ومن ثم انعكاسه على بناء الشخصية نقداً بارعاً وذكياً أسند الرؤية النقدية للمسرحية.. إلا أن الخلل أصاب بناء الشخصية من جهة أخرى حين رسمها منحرفة في طريق الشعوذة برضاها ووعيها، وبالتالي تصدعت رؤيتها الفكرية العامة وأصيبت بالتناقض والغموض في مواقفها مما جعلها بلا موقف.. ولعل المؤلف أراد لها أن تكون كذلك.. وسيئة (كشف) لا شخصية (موقف).. كشف لوضع سياسي واجتماعي مرفوض وفي الوقت نفسه تجيب انتقاده مباشرة واتخاذ موقف منه علانية.. والنتيجة جاءت دون الصد حيث كشفت الشخصية عن عيوبها لا عيوب محيطها فحسب.. وسقط المؤلف في المحذور!

الغموض والخلخلة في ملامح وبرز في ذهن المشاهد تساؤل مهم: لم استخدام شخصية منحرفة للكشف عن مثل هذا الانحراف؟ وقد يقبل المنطق الرجعي هذا البناء الفتى في الشخصيات، أما وجهة النظر التقدمية فترفض ذلك مهما كانت المبررات.

ولا شك أن المسرحية في بنائها الظاهري والتقني تبدو متماسكة ومترابطة، ولكن حال ما ينتهي المشاهد منها ويفكر فيها جيداً يجد أنه لم يخرج منها سوى بأشتات من الأفكار والانتقادات المتضاربة.. يعجز عن لمها تحت رؤية فكرية متكاملة وأصيلة، ومع أن شخصية الفقيه عصفور بدت من حيث الموقف متصدعة وغامضة إلا أنها أدت دورها بإتقان وقدمت انتقادات بارعة للسلطة حين يلفها الغباء والسذاجة..

فالباشا الذي هو قمة السلطة كان فارغ الفكر والضمير ينتظر دائماً من ينقذه من إشكالات المسئولية ولو على حساب حاشيته ورعاياه.. وهو يحكم عقم تفكيره منساق إلى الاستعانة بنوع معين من المشعوذين خفاف الظل النابهين في مجال ألاعيب الإدهاش والغرائب هذا الحكم الذي يفرز بطبيعة تكوينه نوعاً سيئاً من البطانة أو الحاشية التي تتقلد دورها بمهارة في حياكة الدسائس وانتهاز الفرص للانقضاض على المناصب والأموال.. وفي المسرحية تلعب هذه الفئة دوراً بارزاً تكون فيه أحد طرفي الصراع.

ونجد المؤلف لأمر ما، أو الأسلوب الفني في الكتابة يغلف المسرحية بديكور تاريخي وأدبي عصور الترف واللهو العربية.. مجالس الخلفاء وعالم ألف ليلة وليلة.. وغيرها.

    • ماذا أعطى الإخراج؟

لم يتسن لي مشاهدة أعمال أسعد فضة الأخرى لأتعرف على أسلوبه ومنهجه في الإخراج، كما أن هذا العرض لا يمكن الخوض في تجربته. فبالإضافة إلى جهلي بالتغيرات التي ربما حصلت على النص الأصلي.. هذا النص الذي تبين أنه عملة نادرة هنا.. فإن نقد الإخراج في ضوء الظروف التي وضع فيها المخرج (وهي قلة الطاقات التمثيلية المتوفرة في مسرح الجزيرة وضعف بعضها. وعدم توفر المستلزمات الفنية المناسبة للخشبة ومن ثم اضطراره إلى سد النقص بأي شيء) يعد بعداً عن الحقيقة وإظهار مستوى الكفاءة الفعلي.. ويبقى أسعد فضة مخرجاً تشهد له أعماله من جهة ويشهد له جهده العالي في رفع كفاءة ممثلي المسرحية وتنمية قدراتهم الحركية والصوتية واللغوية، تزويدهم بالخبرة المسرحية العملية.

    • ماذا أعطى التمثيل؟

الممثل الجيد هو الذي يتفهم المسرحية من شتى الوجوه، ويغوص في روح الشخصية التي يريد تجسيدها على الخشبة لا عن طريق الاندماج الفج المتشنج، إنما بالتجاوب مع دوافعها وطموحاتها، والتفهم لسلوكها وتفكيرها.. وعن طريق هذا الفهم العميق ينبع الإيمان بالشخصية وعن طريق الإيمان ينبع الإحساس.. الإحساس الصادق الذي يتيح له الثقة والتركيز والإبداع، ويدفعه ليؤدي دوره بقوة كبيرة من الانفعال والإقناع الانفعال المسترخي والإقناع دون إجهاد.. والتمثيل الجيد هو هذا المزيج المتكون من الحرفية والإبداع.. فأين ممثلونا من هذا؟

سعد الجراف في دور (الفقيه عصفور) استطاع إلى حد ما أن يتخذ وضعاً تمثيلياً أفضل مما كان في أدواره السابقة فقد كان واثقاً من نفسه متحكماً في حواره والسيطرة على أدائه وخاصة مع الممثلة التي أدت دور (الياقوت) التي كانت تشكل عرقلة واضحة لانسياب العرض المسرحي وتدفقه إلى الجمهور.. ومع ذلك كان تأثيرها على (سعد) ضعيفاً، وهذا دليل على أنه يمتلك طاقة فنية يمكن أن يكون لها شأن في المستقبل، لكن الجودة في التمثيل ليست السيطرة فقط على وسائل الاتصال من صوت وحركة وإيماء فما لم تستطع هذه الوسائل نقل أفكاره النص وانفعال الممثل وأحاسيسه بها فإن التمثيل يظل ناقصاً، وهذا ما لم يستطع سعد أن يوحي به أو يعبر به عنه، وبدا فهمه للشخصية لا يتم عن تعمق واستيعاب، وزاد الطين بلة لجوؤه إلى تضمين الحوار بكثير من الكلمات والتعابير العامية والإكثار من حركة الجري والقفز.. مما أعطي الشخصية سمة التهريج والفكاهة الهزيلة التي تهدف إلى استجداء ضحك الجمهور وبهذا تعطل وصول الحوار وما يتضمنه من أفكار وانتقادات جادة وأحاسيس وقدم سهد بهذا إضافة إلى غموض الشخصية في الأصل، كما ذكرنا سابقاً.

ومحمد الجراف في دور (الباشا)، بعد تمثيله أكثر قدرة في إجادة التمثيل مقارنة بأدواره السابقة فقد تخلص من كثير من الحركات التي لا داعي لها كتشنج الجذع وضعف الانفعال.. ولكنه في هذا العرض لا يخلو من نواقص فقد أدخل صفات غريبة على دوره، كالتأتأة والفجلجة والترديد وتقطيع جمل الحوار إلى جانب البحة التي تلازم صوته وتضعف من صفاء لغته.. ولا أدري من أين استقى هذا كله ليعبر به عن ملامح شخصيته؟

وسبيكة الحكم في دور (جرادة) لم تستطع التخلص طبعاً – من مواصفات أدوارها السابقة: المرأة الأمية الجاهلة الثرثارة، السليطة اللسان التي ترش جمهور الصالة بوابل من الكلمات المبهمة أو الغارقة في العامية.. هنا انقلبت تلك المواصفات إلى مساوئ:

الثرثرة بالحوار، جمود التصويت في نغمة عالية حادة رتيبة، السرعة في أداء الحوار وكأنها تريد التخلص من الدور بأسرع وقت، تأدية الفصحى بلحن عامي!!

وبرز من الممثلين الذي برعوا في أدوارهم رغم قصرها، عاطف السلطي في دور (الخليفة الثاني) وعبد الله وليد في دور (فضول) فقد كان تمثيلهما على درجة كبيرة من الإتقان، ظهر في انسجام الحركة والحوار، وتلوين الصوت وصفاء الإلقاء، والاستيعاب الجيد لروح الشخصية، وأشاع عبد الله وليد في شخصيته روحاً حيوية فكهة، فحققا روحاً حيوية لانفعالهما وإحساسهما إلى المتفرج..

ومحمد البهدهي قدم عرضاً وسطاً، لم يكن أفضل أدوراه ولكنه حافظ إلى حد ما على كفاءته في التمثيل وأشاع روح المرح والحيوية في دوره ولكنه أخفق في مجمل أدائه من حيث نقل الإحساس وإبراز ملامح الشخصية التي مثلها، كما جاءت اللغة رغم وضوح إلقائها تشوبها رنة التصنع أو التكلف.. ولعل تجربته الحديثة مع الفصحى والنمط الجديد لدوره كانا وراء هذا المسوى.

أما بقية الممثلين فلم يؤدوا أدواراً تيسر لهم إظهار قدراتهم وطاقاتهم الفنية.

    • ماذا عن اللوحات الغنائية؟

اللوحة الأولى التي استطاعت إلى حد ما أن تعبر إلى حد ما رغم إيقاعها الرتيب وكلماته الساذجة عن مسيرة البحث عن الحظ ووسيلة إنعاش ذهن المتفرج، أما اللوحتان الأخريان فقد أحدثتا هبوطاً مفاجئاً وعميقاً في انسياب العرض ويعثر تدفقه بشكل ملموس!

    • ماذا أعطى الديكور؟

يصعب إعطاء مدلول تعبيري للديكور لأنه ببساطة لم يدخل من باب الإضافة للعمل المسرحي، إنه ولج من باب آخر، يطلق عليه (الحرفية في الفن) أي نقل الحقيقة الظاهرة أو الواقع الخارجي كما هو.. فديكور المسرحية هو كما يلي:

(عشة + واجهة مغارة + بيت عنكبوت + سلالم عمودية + كرسي مزخرف. إلخ)

وبإمكان أي متفرج مهما ضؤلت معلوماته سيفسرها هكذا بالترتيب:

(فقر + ملجأ لصوص + قِدم + أدوات لصوص + حكم أو سلطة)

 وكل ما ذكر تحدثت عنه المسرحية وعرضته مجسماً على الخشبة فما الإضافة هنا.. لا شيء طبعاً لأن هذه الأجزاء من الديكور دون علاقات وغير منسقة لتنتظم في (كل) له دلالة وإيحاء، فلا يمكن أن تعطي الأجزاء وحدها معنىً كلياً ما لم تنطلق من (كل).. وتعني هذه المقولة بلغة المسرح: قراءة استيعاب لأفكار النص وربطها في (كل) ثم إعادة صياغتها في (كل) جديد يحمل دلالة جديدة توضح المعنى أو توسعه أو تضيف إليه بعداً جديداً.

وهنا تجدر الملاحظة أن ليس غير فنان الديكور نفسه قادراً على القيام بالعمل، وما يلاحظ من حرفية في فن الديكور المسرحي عندنا راجع إلى كسل الفنان وترك المهمة للمخرج وما على الفنان إلا السمع والطاعة وتحريك ريشته ورش ألوانه.. ويستوي هذا النوع من الفنانين مع فنان من نوع آخر هو الذي يقرأ النص لا يستوعبه ويخرج منه بالنتيجة إياها.

لكن يظل الديكور في مسرحية (السعد) كعمل حرفي غاية في الإجادة والإتقان، وصانعه (يوسف قاسم) فنان ماهر وخبير في مجال التشكيل.. والنجاح التام ليس حليف الإنسان في كل خطواته.. ولعل السبب المباشر لهذا هو الاقتصار على ديكور ثابت للمسرحية كلها، والديكور الثابت بعد من أصعب المهمات التنفيذية في العمل المسرحي ويصير أحياناً إشكالاً مميزاً للفنان فالنص المسرحي في هذه الحالة يتطلب منه تجميع الرؤية المتناثرة في فصوله في (كل) عام. ولا شك أن التعبير عن الكليات الصغيرة كل على حدة أسهل بكثير من تجميعها والتعبير عنها في (كل) عام.. وهذا ما يجعل الفنان الذي يلجأ إلى الديكور الثابت إلى التخلص من الإشكال بالتعبير الحرفي التزييني.

    • ماذا عن المؤثرات الأخرى؟

الإضاءة لا تزيد عن كونها نقلات لا تتعدى فتح الضوء أو غلقه أو تركيزه بصورة آلية، وليس ثمة مؤثرات أخرى اللهم إلا إذا عد الفاصل الموسيقي من ضمنها وهو على أية حال فاصل فعلاً!!

أحمد المناعي.

اختيار المخرج أسعد فضة لمسرحية (السعد) التي كتبها أحمد الطيب العلج – من رجال المسرح المعروفين في المغرب العربي – اختيار موفق، وإن كان في أغلب الظن اختياراً شخصياً.. فهذه المسرحية الكوميدية التي تمتح من التراث والأساطير تعطي مدلولات عصرية معقولة في خطين متلازمين: اجتماعي وسياسي..

وأحداث القصة معروفة لدى كثيرين، سمعناها في الطفولة من أفواه أمهاتنا، وهي شهيرة في ريفنا بقصة (الشيخ عصفور وزوجته جرادة).. وإذا كانت في واقعها الخام ليست أكثر من حكاية للتسلية تعتمد على المصادفات والمفارقات وأوهام السحر والشعوذة، فإن الكاتب استطاع أن يؤكد بها قيماً ومفاهيم واقعية نجدها مجسدة في مجتمعات عصرنا الراهن – كما هي في الماضي – بشكل أو آخر..

فالفقيه عصفور الذي يركن إلى الخمول متهرباً من الدائنين يفاجأ بزوجته (الجرادة) تطلب إليه الرحيل بحثاً عن سعده.. وعندما يقابله صديقه السيد عمرو ويعطيه الدراهم التي استردها من مغارة اللصوص يظن أنه وصل إلى هذا السعد، ولكنه يفاجأ بزوجته مرة ثانية تنبهه إلى أن الباشا بدأ يهدد الناس بالدمار إذا لم يعثروا على عقد ابنته الضائع، وإن عليه أن يذهب إليه ويدعي معرفة مكان العقد الذي ابتلعه غزال في القصر ورأته جرادة وهي تغسل الثياب هناك..

وتنجح الحيلة ويصبح الفقيه عصفور الرجل المقرب للباشا، وتلعب المصادفات دوراً عجيباً في إنقاذه من عدة مآزق، كما أنه يستخدم ذكاءه في مجابهة خليفتي الباشا اللذين يريدان الإيقاع به، ويكتشف من خلال وجوده في القصر أن اللصوص هم بطانة الباشا وحاشيته. ولا يشفع له هذا عند الباشا عندما يكتشف أنه كان يخدعه بادعائه معرفة الغيب ويأمر بضرب رأسه فيمتثل عصفور للنهاية المتوقعة لكن بعد أن يطلب إلى الناس تبليغ رسالته في كشف الزيف والخداع وخيانة الشعب..

    • حول الإخراج:

آخذ أسعد فضة من جديد مقدرة متمكنة في الإخراج، جاءت في تحريكه الذكي للمجموعات إذ ظهر على المسرح حوالي أربعين شخصاً.. وما آخذه عليه هو برود المشهد الأول من المسرحية، نسبياً، وضعف المشهد قبل الأخير، مشهد شرب الخمرة والاستماع إلى الغناء، إذ جاء مفتعلاً، باستثناء هذين المشهدين كان في غاية التوفيق..

    • حول التمثيل:

تساءل كثيرون: لو لم يلعب عبد اللطيف فتحي دور البطولة في هذه المسرحية، هل كانت ستخرج؟ الجواب محير، كما أعلم، فليس هناك بين جميع فنانينا من يستطيع أداء الدور بهذه الروعة وهذا النجاح.. مما يؤكد أن عبد اللطيف فتحي، قلنا عنه دائماً، ممثل كبير، ضاعت مواهبه سنين طويلة في مسرحيات هزيلة وغير مدروسة.. ولعلها من باب المصادفة أن تقدم في الوقت نفسه مسرحية لمحمود جبر بعنوان (شغلة فايتة ببعضها) مما كشف أمام أي راصد واعٍ لواقع مسرحنا الفرق الكبير بين الكوميديا الراقية بالمتمثلة بمسرحية السعد، وبين التهريج المرتجل في المسرحية الأخرى..

منى واصف: أضافت إلى نجاحاتها السابقة العديدة نجاحاً جديداً.. فدور (الجرادة) زوجة الفقيه عصفور دور صعب جداً، ولكن هذه الممثلة الموهوبة أدته ببراعة..

مها الصالح: في دور الغانية ياقوت. بعد دورها الذي تألقت به في (جاندارك) بدت غير موفقة كثيراً في هذا الدور.. وكان إسناده إليها من قبل المخرج اختياراً بحاجة إلى إعادة نظر، إذ أن تركيبها النفسي والجسدي، وطبقة صوتها غير الملائمة لمثل هذا الدور، أمور جعلتها تبذل أكثر من الجهد المطلوب فبدت حركتها مفتعلة..

وأشير إلى أدوار أخرى متميزة منها: يعقوب أبو غزالة في دور (الباشا) وعدنان بركات في دور (جوشن السياف) وأحمد عداس في دور (السيد عمرو) ومحمود جركس في (الحاج فضول) وياسين بقوش في دور (المادي) ونور كيالي ومحمد الطرقجي في دور (الخليفة).

بقيت ملاحظة أخيرة وهي أن في المغرب العربي الكبير حركة فنية متقدمة، إن كان في المسرح أو السينما، ولعل بادرة أسعد فضة في هذا الاختيار تشجع على اتخاذ بادرات أخرى عملية في التعريف بهذا الفن المتقدم في هذه الأقطار من وطننا العربي الكبير.

جان ألكسان.

كلمة من الأعماق

تابع جمهور المسرح في البحرين مسرحية (السعد) التي قدمها بنجاح مسرح الجزيرة.. والتي جاء نجاحها نتيجة تضافر الجهور.. والإخلاص والوفاء للعمل، والصدق في النية.. وشعر الجميع بالارتياح وهم يرون الحركة المسرحية تنشط من جديد وتسلك طريقاً هو سبيلها إلى التقدم المنشود.. إنها ومن غير محاباة تفتح أبوابها للمواهب الشابة والكوادر الفنية القادرة على تقديم العطاء..

ومن ثم فقد أصبح الفن المسرحي في بلادنا يهدف إلى غاية ورسالة.. ولا أعني أنه لم يكن صاحب رسالة في الماضي.. بل أعني أنه نهض برسالته وسعا بأهدافها إلى الغاية المرجوة.

إن القيادات المسرحية بوعيها وإدراكها للرسالة الفنية الحقّة – وهي تسعى جادة ومخلصة في توحيد جهودها وأهدافها – إنما تسلك طريقاً إيجابياً هاماً في تصحيح اتجاهات الحركة المسرحية.. فهو فضلاً عن أنه عامل يحسب حسابه بين عوامل الكشف عن روح الفنان الحقيقية في بلادنا.. ومحاولة نقل هذه الروح وتصويرها على خشبة المسرح (روح العائلة والأسرة الواحدة).. هذه الناحية يجب أن نوظفها ونستغلها في خدمة وخلق حركة مسرحية عارمة.. تكون في ذاتها إحدى الوسائل الهامة لخدمة هذا الوطن.

إن العمل المسرحي الذي قدمه مسرح الجزيرة لجمهور المسرح في البحرين.. والذي صفق له الجميع بحرارة.. يعتبر خطوة على طريق تطوير مسرحنا المحلي والنهوض به.. وإن التعاون الذي قام به الفنانان عبد الله وليد ومحمد البهدهي من مسرح أوال مع زملائهما من مسرح الجزيرة لهو أصدق صورة في إبراز روح التعاون الذي يهدف إليه شباب هذين المسرحين الرائدين في هذا البلد.. وإن مثل هذا النجاح في خلق التعاون ليحفزنا إلى مزيد من التكاتف والتعاون الفني من أجل رفعة المسرح والنهوض به..

فأمانة الالتزام برسالة العمل المفني وأهدافه تفرض علينا أن نزيد من حجم التعاون بيننا، وأن نمد جسراً للتقارب.. وتبادل الخبرات واشتراك الكوادر جنباً إلى جنب.. لما فيه خير العمل المسرحي..

وقد جاءت مسرحية (السعد) تترجم النظرية إلى واقع وتثبت صدقها وإخلاصها.. بتقديم عمل ناجح يعتز به جمهور المسرح والقائمون عليه من مسئولين وإداريين وفنانين.. مما يشجع على السير قدماً نحو الأفضل، في سبيل تنشيط الحركة المسرحية والارتفاع بها إلى قمة العطاء..

إن شرف العمل المسرحي يفرض على جميع من يهمهم الأمر في هذا القطاع الفني الهام أن يجندوا كل الطاقات للنهوض بهذا المسرح.. وإظهاره بالمظهر المشرف.. وإن تاريخ الحركة المسرحية في هذا البلد يشهد بطاقاته وكوادره الفنية المختلفة بالأصالة والصدق والتضحية.. أملاً أن يكون هذا التعاون القائم بين مسرحي الجزيرة وأوال..

بداية طيبة.. وخطوة جادة لخطوات أكبر وأشمل في الأعمال المسرحية القادمة.. والكفيلة بإعطاء حركتنا المسرحية دفعة جديدة إلى الأمام لتحقيق ما نصبو إليه جميعاً…!

جلال الحلواجي.

من الصعب الخوض في الحديث عن عمل فردي جماعي. إذ أن نجاحه أو عدم نجاحه مرهون إلى حد كبير بقدرة التفكير والتفسير، وهذا صعب، بل يكاد يكون مستحيلاً، لأن حرية الإنسان الأصلية من الداخل، تتكثف حيث هو مختلف، ولو لم يكن مختلفاً، لم تكن هناك حاجة إلى وجوده. وينمو هذا الإحساس في نفوس المبدعين ويتأصل.

فلهذا نجد ذلك الاختلاف في فهم وتفسير العالم الخارجي المحيط، باختلاف الأشخاص الذين يشعرون (مع أنهم يعيشون في مجموعة) بأنهم مختلفون. لو كان الأمر متعلقاً بشخص واحد، فنان تشكيلي مثلاً، لكانت القضية أقرب إلى التناول والمعالجة، ولما ضاع المرء في متاهات الاختلافات والتناقضات التي لا يمكن الإحاطة بها من الداخل، مع أن مظهرها الخارجي يمكن أن يوحي بنوع من التلاؤم، وذلك تبعاً لاختلاف المسؤولية بين فرد وآخر في العمل الجماعي، وقيمة الدور الذي يشارك فيه الفرد في إطار المجموعة.

وفي هذا الأسبوع – أخوض تجربة شائكة عند محاولتي الحديث عن المسرح. وعن مسرحية (السعد) التي تعرض الآن في دمشق، وهي من تأليف المسرحي المغربي (الطيب العلج) وإخراج المخرج السوري (أسعد فضة).

تمتد علاقتي الشخصية بالمسرح إلى أواخر الخمسينيات، حين شكلت فرقة المسرح القومي، وكنت أشارك هذه الفرقة بتصميم الديكور حيناً، وتصميم الأزياء أو الأزياء والديكور حيناً آخر، إلا أن هذا العمل جعلني حينذاك أشعر بأنني مرتبط ارتباطاً وثيقاً ليس بالعمل فحسب، بل بالأشخاص الذين يشتركون في تقديمه، وأنني مسؤول – على نفس المستوى – عن نجاح العمل أو إخفاقه، نتوحد شيئاً فشيئاً حتى نصبح واحداً بالفعل، وكنت قبل ذلك (أي قبل عملي مع المسرح القومي) متفرجاً بالنسبة للمسرحيات، وكان هذا الموقف يسمح لي أن أوزع الإعجاب وعدم الإعجاب (ربما بسبب السن أيضاً) كما أراه من زاوية نظري الشخصية فقط. ولكنني عندما بدأت بالمشاركة، كنت أنظر إلى الذين يتكلمون سلباً أو إيجاباً، على أنهم أناس خارج العمل، ولا يستطيعون أن يقدروا مدى ما بذل في سبيل تقديم العمل على ما هو عليه، مع أن الجمهور معذور، فهو يتوقع أن يرى دائماً عملاً ناجحاً.

ولهذا، فعندما قررت الدخول في هذه التجربة في المسرح الآن، رأيت أنه من الإجحاف أن أبقى جالساً في مقعدي وأشاهد المسرحية، وأطلق الحكم دون محاولة كشف وفهم ما يجري وراء كواليس المسرح، هذه الأمور التافهة في نظر البعض، والتي تشكل مجموعة علاقاتها – بالنسبة لي – العمل الأخير المتكامل الذي نشاهده ونحن مرتاحون في مقاعدنا (تمر ببالي صورة ممثل مسرحي في أوائل الستينات، أغمي عليه قبل دخوله الخشبة بخمسة دقائق، وكنا نحضر لليلة الافتتاح، ومقدار الذعر الذي أصاب الجميع، والتهافت على إسعاف الممثل من قبل كل من كان يعمل وراء الكواليس، بينما كان زوار الكواليس ينظرون بحياء).

فقررت بعد رؤية المسرحية، أن أنسل إلى خلف الكواليس، محاولاً أن أجد الوثائق المتممة لما وصلت إليه من قناعات وأحكام على المسرحية، وهكذا بدأت جولتي، التي لا أحب أن أذكر عند سردها أسماء من قابلت، لأنني وعدتهم بذلك احتراماً للثقة التي أولوني إياها بكلامهم بصراحة، وحباً في أن تكون بيننا ثقة متبادلة نستطيع من خلالها أن نقدم شيئاً مفيداً. مع أن بعضهم لم يستطع الثقة بي، وكان كلامه صحفياً، توقع أن ينشر اسمه بجانبه، وذلك بعد أن أخرق الوعد الذي قطعته أمامهم على نفسي. ولا يحتاج الإنسان إلى كثير من الجهد لكي يستطيع التفريق بين هذين النوعين من الكلام.

بعد رؤية المسرحية. تكونت عندي فكرة معينة عنها، بالإضافة إلى تساؤلات تنتظر جواباً ما، وكنت قد قررت الأجوبة التي يمكن أن تعبر عن وجهة نظري، ولكن ذلك بدا لي شخصياً جداً، فقررت أن أطرح هذه الأسئلة على بعض الممثلين (على اختلاف مواقفهم) واستجمع من كل هذا نتيجة يمكنني أن أقول عنها أنها خلاصة، وخلاصة مفيدة. لأنها لا تقوم على نظرة الجالس في المقعد فقط (والتي تكون سخيفة أحياناً). بل تقوم على مزج مجموعة الانطباعات التي خلفتها المسرحية لدى الجمهور والممثلين على السواء. وسوف أستثني المخرج بعض الأحيان في الإشارة إلى اسمه وكلامه، وذلك بالإذن منه.

سألت المجموعة طارحاً قناعاتي، عن المسرحية. وعن إمكانية وجود مسرحيات مشابهة، وعن مدى استيعاب الموسم لهذا النوع من المسرحيات، وعن جدوى تقديمها، وعن قناعاتهم بأدوارهم المسرحية لهذا النوع من المسرحيات، وعن جدوى تقديمها، وعن قناعاتهم بأدوارهم في المسرحية، وعن مدى تلاؤم ما قدموه مع ما يحبون أن يقدموا ومع ما يريد لهم المخرج أن يفعلوا.

سألتهم عن الجمهور وعن رد الجمهور. عن طول المسرحية، عن المشاهد التي لا يؤثر إلغاؤها على المسرحية كعمل. بل يمكن أن يكون إلغاؤها إيجابياً. عن الديكور وعلاقتهم به، عن الكاتب ورأيهم الشخصي فيما كتب. إلى آخر هذه الأسئلة التي تتداعى واحداً بعد الآخر في جلسة لا يعكر صفوها وحش الصحافة، ولا تخوفات خيانة الوعد. وكان تناقض الأجوبة شيئاً مثيراً جعلني أغير الهيكل العام لمقالي حتى أتى بهذه الصورة.

ولا بد لي، قبل الخوض في سبك بعض هذه الإجابات في قالب واحد. من الإشارة إلى أن الذي دعاني إلى الكتابة عن المسرحية هو شعوري بأنها أفضل عمل مسرحي قدمه لها المخرج (أسعد فضة) إلى الآن. ولا يطلب أحد الكمال، لأن الكمال – كما تعلمون – لله وحده.

تتحدث المسرحية عن معلم لغة (الفقيه عصفور)، حاول يجد سعده، ولما تم له ذلك تورط في مشاكل لم يكن ليحلم بها، وتكشفت له (في بعض الأحيان) نفسه العميقة. حتى بدأ يلعن السعد وساعته، ويقرر إنهاء حياته بعد أن رأى أن الورطة لا تجره إلا إلى ورطة أكبر، تبعده عن نفسه، وتدمر كل آماله (آمال كل الناس) في العيش دون مشاكل، وكل ذلك في إطار حكاية يفترض أنه لا زمن ولا مكان لها، باستثناء بعض الإشارات التي تحدد تواريخ معينة، كذكر اسم (روميو) مثلاً، (وكم كان ذلك سخيفاً في النص لأنه مضاف بصورة فجة إلى قصة توحي كلها بأنها شرقية)، وكم كان حرياً بالمخرج أن يحذف هذا الاسم.

وتستغرق المسرحية من الوقت مدة ثلاث ساعات ونصف (وذلك مع الاستراحتين)، وقد كانت في نظر الأغلبية طويلة يمكن اختصارها دون الإضرار بها، وكانت متعبة للممثلين والجمهور على السواء. وكان هذا رأيي، وكنت أرى أن هنالك مقاطع كان من الممكن إلغاؤها دون التأثير على البناء المسرحي، وخاصة الرقصة التي قامت بأدائها عضوات من فرقة أمية للفنون الشعبية. فأنا (بغض النظر عن جمالهن، أو جمال بعضهن) لا أستطيع إلا أن أرى في الرقصة قطعاً جارحاً للمسرحية وأحداثها، وتحويلاً للمخيلة إلى دروب جانبية أخرى. حتى يكتشف المتفرج عند انتهائها أنه ما زال يشاهد مسرحية. ولكن قناعة المخرج تقول إنه قد اختصر من المسرحية أكثر من ثلثها، ثم اختصر أيضاً أثناء التمارين، وكان هذا الاختصار هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه.

(ولا شك أنه اختصر كثيراً من الحشو اللامجدي فالمسرحية كما هي في الأصل يمكن أن تستغرق أربع ساعات ونصف ونيف). أما عن الرقصة، فقد قال المخرج أنها كانت ضرورية لتساعد في تصوير الجو الذي يعيش فيه الفقيه عصفور مقلداً الباشا. واسترسلت في الحديث مع المخرج فسألته عن سر الإصرار على تقديم الجو باستعمال أساليب حسية جداً تعطي إيحاءات جنسية قوية. فكان جوابه أنه أراد أن تكون المسرحية مقنعة في الأحداث حتى تسيطر على المتفرج وتجعله يحس إحساساً قوياً بما قصد المخرج والمؤلف على السواء من الحوادث التي تدول حول القصة.

لم يكن دور أي ممثل هو الدور (الحلم) بالنسبة له. وذلك على عدة مستويات. فمنهم من قال إنه لا بأس به، وأنه لمسة حلوة. ومنهم من كان يستعد للظهور على الخشبة قائلاً إنه غير مقتنع بما يعمل. ولكنه يحاول أن يقدمه جيداً (وفعل).

أما عن الحركات التي رأيتها زائدة في المسرحية (باستثناء بعض الأدوار) فقد دافع عنها البعض على أنها من صميم العمل، وبأنه مقتنع تماماً بها، وقال البعض أنها زائدة، ولكنه لا يستطيع إلا أن يقوم بها إما استجابة لطلبات المخرج، أو محاولة شخصية للإقناع بالواقعية، وذلك باستعمال الحركات المبالغ فيها.

ويأتي الحديث عن الديكور الذي (بالإذن من المصمم) اختلف عليه المخرج والمصمم، وكان لكل منهما وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر الآخر، فالمخرج يعتبر المسرحية واقعية إلى حد كبير والمصمم يعتبرها رمزية إلى حد كبير. وهكذا قدم عملان مختلفان في آن واحد، وعلى مكان واحد. إلا أن المخرج حسب حسابه لهذا ولذلك فقد ألغى الديكور، أو الخلفية الأساسية منه أثناء التمثيل، وهذا في رأيي أضعف الإيمان، إذا كان يجب عليه أن يلغيه فعلاً ويمثل على ستائر سوداء إذا لم يتلاءم أو لم يتعاطف مع الديكور، أو إذا كان الديكور يتبنى وجهة نظر مغايرة لقناعاته. ولا شك في أن للمخرج الحق في طلب شيء معين في الديكور، لأن له الكلمة الفصل أخيراً، ولأنه المسؤول عن جمع الشتات من هنا وهناك ليؤلف وحدة متكاملة. ولكن رأيي أن هنالك انفصالاً يكاد يكون دائماً في بلادنا بين المخرج ومصمم الديكور، لأن المخرج يعتبر الديكور من الشكليات، ومصمم الديكور يريد أن يبرز عمله الشخصي في المسرحية (ولا أقصد هذه المسرحية بالذات) وهكذا يحدث أحياناً أن يكون العملان مستقلين عن بعضهما، لا تستطيع يد المخرج أن تطالهما بالتقريب والتوحيد.

قد أكون في موضوعي هذا قد اهتممت بالجزئيات دون أن أتعرض للعمل ككل، ولكنني أحب أن أقول إن الكل يصعب الحصول عليه إلا بالمشاهدة، وأحسن شيء يفعله القارئ هو التوجه إلى المسرح لحجز بطاقته بدل الذهاب إلى مقهى والاستغراق في رؤية الأوراق الملونة بالأسود أو الأحمر، والتي تتابع أرقامها من الواحد إلى العشرة، ويأتي بعد ذلك الشاب والسيدة والملك.

لقد جمعت من حديثي مع المشتركين في المسرحية، أفكاراً لا يمكن أن أضعها مرة وحداة في حيز ضيق، وهي تحتاج إلى زمن وحيز أكبر، لأن التحدث إلى إنسان آخر ليس شيئاً ثانوياً، ولا عابراً، إنه الزاد الذي نحتاج إليه دائماً، وخير عزاء لي أنني حصلت على كثير من الزاد في لقاءاتي مع المجموعة. ومازالت أمامي فرصة هضمه وتمثله والحصول على غيره.

وأخرج من هذا الموضوع (وقد يتهمني البعض بأنني أتحدث عن المسرحية) بقناعة أكيدة، وهي ضرورة إقامة ندوات فنية يشترك فيها الممثلون والمخرجون والعاملون في المسرح عموماً لبحث كافة القضايا التي تجعل من العمل المسرحي ظاهرة طليعية. وألا تقف علاقاتهم عند حدود الوظيفة. إذ أنه دون أن يتأكد عامل الارتباط، لا يمكن أن يكون هناك عمل خلاق في مسرح طليعي.

الندوات، والمصارحة الحرة، مفتاح جيد لتقارب الأفكار وتلاحمها، ومدها دائماً بسيل من المفاهيم الجيدة التي تسهم في خلق المسرح الطليعي القادر..

فلنفتح الحوار، لأنني وجدت في كل شخص تحدثت إليه، شخصاً فرداً أنه يحاول بجهد وإخلاص أن يصل إلى الآخر، فأنه يجد الطريق مسدودة بصورة ما. ولا يصل إلى غايته، وتبقى الأمور تقام بصورة فردية، حتى في العمل الجماعي.

عبد القادر أرناؤوط.

هذه المسرحية مجموعة من حكايا وأساطير شعبية جمعها الكاتب إلى بعضها بمتانة وإحكام. ولكنه – وهو يخوض هذا الخوض الأسطوري في بناء المسرحية – يبدو ذا نزعة علمية ومذهب اشتراكي. وهنا تكمن قيمة المسرحية كموضوع أولاً وكتناول ثانياً. ومن هذه الزاوية نناقش المخرج في فهمه للنص.

تدور حوادث المسرحية حول إنسان يفتش عن سعده في ظل أحد الحكام. والحاكم ظالم مستبد يعاقب نصف سكان الأرض بالإعدام والنصف الثاني بالسجن المؤبد إذا لم يجدوا لابنته عقدها الضائع. وحول هذا الحاكم بطانة محفوظة تتزلف إليه وتستبد وتسرق وتتآمر. أما الرعية فبين محظوظ غني وجائع فقير.

في هذا الجو يبحث الفقيه عصفور عن سعد ينجيه من شقاء الجوع والحرمان، فيرحل سائلاً عنه فيجده أخيراً هناك في قصر الحاكم، ويكتشف أن الطريق إلى قصر الحاكم – رغم أنه محفوف بالمخاطر – بسيط يحتاج إلى قليل من شعوذة وكثير من كذب وادعاء ولكنه أيضاً يحتاج إلى التصدي لأعوان الحاكم الذين يحسدونه على مكانته منه ويحتاج أيضاً إلى التخلي عن الزوجة والضمير والصديق وأصحاب الضمير.

إن السعد هنا وعلى هذا الشكل تصوير للنظام البرجوازي الظالم بما فيه من تفسخ في العلاقات الاجتماعية وما فيه من تقارب طبقي شنيع قبيح. والفقيه عصفور يدرك في النهاية طبيعة هذا النظام الذي إن طال عليه الأمد فهو محتوم الفناء فيتخلى عن السعد الذي أتاه ويتلقى حكم الموت صابراً راضياً منهياً حياته بهذا النداء العريض العميق (احكموا الإيقاع واضبطوا الزمن ففي ضبط الزمن أكبر تحد للزمن) هذا هو في تقديري روح المسرحية العام، ولهذا قلت إن الكاتب علمي النزعة اشتراكي المذهب وليس الشكل الأسطوري إلا ظاهراً جذاباً يخفي الكاتب في ثناياه أفكاره، وليس هذا الفهم ادعاء نلصقه بالكاتب والمسرحية وإنما هو شيء مفهوم من نقاط دقيقة شديدة الخفاء.

فأولاً، الحظ السعيد لا يأتي صاحبه إلا على حساب بؤس الآخرين – كما ورد في حديث الحكيم قنديل -، وهذا كشف للتفاوت الطبقي.

وثانياً، استطاع الفقيه عصفور السيطرة على الباشا زمناً طويلاً بما يمكن أن نسميه المصادفات في أصل الحكاية الشعبية، بشعوذته وألاعيبه حسب منطوق فكر الكاتب، ولكنه يعجز أمام حالة واحدة أدت في النهاية إلى كشف شعوذته أمام نفسه وأمام الآخرين هي الكرة التي طلب الباشا منه أن يجعلها تتكلم وتغني. فهذا الطلب لا تنفع فيه المصادفة أو الحظ أو الشعوذة كما حصل في الحالات السابقة – وإنما يحتاج إلى العلم، وهذا المطلب العلمي يكشف الجهل والشعوذة، وبالتالي يسقط البناء الهرمي المرفوع على الجهل والشعوذة.

ومادام الكاتب يصف نظاماً استغلالياً ويتابع حالة من حالات الارتقاء الاجتماعي في نظام كهذا فإنه يحق لنا القول إنه علمي النزعة اشتراكي المذهب فالغاية من فضح الشيء هي الوصول إلى نقيضه، ونقيض الظلم والاستغلال هو العدل ونقيض الجهل هو العلم ويجب على الإنسان بعد هذا أن يحكم الإيقاع ويضبط الزمن.

ومع ذلك فإن نضوج الفكرة وعمقها لا يخلق عملاً مسرحياً – والمسرح فن رهيف – لولا أن الكاتب مدرك لجوهر صناعة المسرح سواء في دقة رسم الشخصيات وهي تجري على ظهر الحياة أو في متانة الحبكة المسرحية وسيرها ضمن خط درامي هو العصب الحساس لكل عمل مسرحي. وقد استطاع الكاتب أن يجعل من شخصياته كائنات حية تعيش وتتألم وتبكي وتستبد وتتمزق، ثم تنتهي إلى أدوار يفرضها عليها منبتها الطبقي وطبيعة النظام، ولذلك لم نجد خلافاً لمنطق الحياة حين يتصرف الحاكم تصرف المستبد أو حين تتطاحن الحاشية فيما بينها وتحاول إبعاد رجل دخيل يسد عليها منافذ الكسب والسرقة لأن طبيعة النظام تفرض ذلك أو حين يتمزق الفقيه عصفور المغتني وهو يصطدم بقسوة النظام وانفضاح جهله أو حين تتألم الزوجة والصديق –  وهما فقيران – من خيانة عصفور لطبقته.

وهذه الشخصيات التي تتحرك ضمن إطارها الاجتماعي والنفسي تخدم المسار العام لفكرة المسرحية وتساهم بالتالي في رسم الخط الدرامي لها، ويتمثل هذا الخط الدرامي في التنقل بين مراحل متعددة. فمن الحيرة الضائعة والصراع مع الفقير إلى التفتيش عن السعد، إلى اللقاء به والصراع القاتل الهمجي ضد الظروف الشرسة التي يمكن أن تذهب بالسعد، إلى الحيرة الجديدة أمام انكشاف النظام والصراع المتولد في النفس عن هذا الكشف. وتأتي النهاية بعد ذلك أمراً طبيعياً ينسجم فيه الإعدام والنظام.

وهذا التدرج في خط المسرحية يرافق تطور الحالة الاجتماعية للفقير السابق، لأنه يرتفع بارتفاع واقعه الاجتماعي حتى يصل إلى ذروته المتأزمة حين يتربع على كرسي الحاكم، ثم ينحدر مع تهاوي سيف الجلاد على رأسه.. وبذلك يكون الخط الدرامي خادماً لفكرة المسرحية وشارحاً لها، وهذا بالضبط هو الوعي الكامل لمفهوم البناء المسرحي وغايته، وهذا هو التوظيف الحقيقي للعمل المسرحي.

ولا شك أن عملاً كهذا يبدو غريباً على المتفرج العادي – بتجربته المسرحية القليلة – لأن الكاتب في نزعته العلمية الملتزمة لا يسير مباشرة إلى هدفه بل يقدم الفكرة الجادة مع ضحكة عريضة إذ أنه يختار الكوميديا وسيلة لما يريد قوله. وبذلك يربح لذة الإمتاع الفني وسحر الغموض الموحي. ولكنه بذلك يرهق مخرج مسرحيته، لأن أي خلل أو تقصير ينقل العمل كله إلى حفلة ضاحكة فحسب تؤدي إلى نتائج مفجعة في إدراك مفاهيم المسرحية.

ولا شك أيضاً أن أسعد فضة مخرج المسرحية كان على وعي شديد حين اهتم بنقل هذه المفاهيم إلى الجمهور عبر عملية الإخراج فقد ألغى الستارة في العرض المسرحي، وسمح للجمهور بمشاهدة نقل الأثاث، وبذلك أسقط الجدار الرابع، وهو عمل مقصود. فالمسرحية تريد قول شيء معين. وهو شيء خفي يكمن بين ضحكات الجمهور وفي ثنايا ملامح الشخصيات، والمخرج يريد التأكيد على أبعاد النص عن ظاهره الأسطوري الضاحك إلى باطنه الفكري الجاد، فكان أن حطم الستارة أو الجدار الرابع حتى يمنع الوهم المتولد عن الاندماج ببراعة التمثيل وحلاوة النص، وبهذه الطريقة يستفيد المخرج من المسرح الملحمي التوجيهي استفادة بسيطة وبليغة في آن معاً في إبقاء ذهن المتفرج في حالة وعي تام بأنه أمام عمل مصنوع مفتعل يريد صاحبه منه أن يدل على شيء. وكتأكيد على تحطيم الوهم جعل المنادي بأخبار الباشا يسير في الصالة فسمح للجمهور أن يتلمس لهاث الممثل وأن يسمع خطواته وأنفاسه وهو يؤدي عملاً مصنوعاً لا داعي للاندماج فيه.

وثمة جانب آخر هو وجه (السعد). فقد جعله المخرج قميء القامة قبيح الصورة. وما السعد في حقيقته من خلال نظام كهذا النظام؟ إنه ليس إلا استغلالاً بشعاً واستلاباً لسعود الآخرين. وهو وأن جلب لصاحبه الغنى والترف ذو وجه كالح لأنه مظهر الظلم كله. والواقع أن إظهار السعد على هذا الشكل ضربة موفقة من المخرج ساهمت مساهمة حاسمة في توضيح المفهوم الاشتراكي لفكر الكاتب.

تبقى بعد ذلك هنات بسيطة في الإخراج، منها الإسراف في الحركات بقصد الإضحاك وإطالة بعض المشاهد من غير داعٍ كمشهد تلذذ الفقيه عصفور بالطعام والنساء والشراب، وكان يكفي اللمح السريع، إلا إن هذه الأخطاء البسيطة لا تذهب بجودة الإخراج.

ترى ألا يحق لنا بعد هذا أن نقول: إن المسرح القومي في انتقائه لهذا النص إنما يقدم لنا فكراً نظيفاً بشكل قريب من النفس العربية؟ وألا يحق لنا أيضاً أن نقول إنه يضع أمام كتاب المسرح أسلوباً حياً ناضجاً لتناول قضاياً الأمة العربية المعاصرة حين قدم لنا ضحكة اشتراكية حادة تجتذب الجمهور وتنبهه وتساهم في توعيته؟