العرض الأول في مهرجان دمشق السابع للفنون المسرحية كان لسوريا وهو (يوميات مجنون) من تأليف الكاتب الروسي غوغول وإعداد سعد الله ونونس وإخراج فواز الساجر وبطولة أسعد فضة. وهذا العمل سيكون العمل السوري الوحيد بعدما أعلن أسعد فضة مدير المسارح والموسيقى عن عدم تقديم مسرحية (الملك هو الملك) التي أخرجها أسعد فضة بنفسه وكتبها سعد الله ونونس.

ومهما تكن أسباب إلغاء العمل السوري الثاني، فإن العمل الأول كان جديراً بتمثيل الحركة المسرحية الرسمية في سوريا، إذ نال هذا العمل إعجاب النقاد العرب الذين يتناولون المسرحيات في اليوم التالي من عرضها وذلك في ندوة صباحية تقام في فندق الشرف وتترأسها وزيرة الثقافة الدكتورة نجاح العطار التي هي رئيسة اللجنة العليا للمهرجان والتي حرصت على حضور كل العروض وكل الندوات فأثبتت بذلك أنها رئيسة فعلية للمهرجان ووزيرة عملية..

    • الممثل وحدة لمدة 85 دقيقة:

ورأي وزيرة الثقافة بالمسرحية السورية الذي قالته في الندوة كان: (أعتقد أنها كانت تجربة ناجحة جداً وذات أبعاد كثيرة..) وقد قالت لنا الوزيرة في حديث خاص: (إن بعض الأخوة العرب عندما شاهد- يوميات مجنون- قال: جعلتمونا نخاف على عروضنا بعد العرض السوري المتميز..)

وفي الواقع، فإن العمل السوري حكم عليه أنه متميز ورائد، لأنه حمل تجربة جديدة للمهرجان، هو ((المسرح التجريبي)) و ((التجريبي)) من رأي المخرج فواز الساجر كما قال ((للأسبوع العربي)) هو التجريب في الأشكال الفنية المحلية والعربية والعالمية للوصول إلى الصيغ المناسبة التي ينقلها الجمهور العربي لنطرح من خلالها القضايا الهامة والحيوية. فالهموم المعاصرة تتقاطع مع هموم الناس يومياً، مشكلة الظروف الاجتماعية واللاتكافؤ في التوزيع الاجتماعي والطموح غير المبرر من قبل بعض الفئات للتسلق أو غياب الوعي الفكري. كل ذلك يجعل تحركات تلك الفئات محكومة بالإحباط والفشل، وخاصة محاولات الخلاص الفردية كما عند مجنون غوغول.

والهدف الأساسي للمسرح التجريبي، كما يقول فواز الساجر هو أن يتوجه للجماهير العريضة كافة وليس للخاصة أو لفئة معينة، أما عن الشيء الجديد في مواضيع المسرح التجريبي، فليس من فكرة جديدة ولكن أسلوب تناول الفكرة هو الذي يحولها إلى مضمون جديد..

ويقول فواز الساجر إن المسرح التجريبي في سوريا حاول أن يبدأ من أبي خليل القباني، الذي حاول أن يصل إلى الجمهور عن طريق الشعر والغناء، ومن عبد اللطيف فتحي الذي حاول أن يخاطب قطاعاً كبيراً من الناس.. أما تجربتنا فسنحاول أن نتجاوز بها الأطر المألوفة التي عرقلت العمل، والسبب في ذلك أن سوريا تعيش أزمة مسرحية مثل أي بلد عربي آخر والجمهور هو الأساس لكل قصة مسرحية، ولكن جمهورنا يذهب إلى المسارح الخاصة التي تكتب على اليافطات أن 130 ألفاً حضروا..

    • جنوا بيوميات مجنون:

أما أسعد فضة بطل المسرحية والذي هو في الوقت نفسه مدير المسارح في سوريا فيقول عن التجربة الجديدة: أن المسرح التجريبي هو البحث عن كل الوسائل لإيضاح المسرحية، وبتعبير آخر: استنزاف كل وسائل التعبير في المسرحية لخلق نوع جديد من التواصل مع الجمهور، وأن يعايش المتفرج الممثل وما يجري على خشبة المسرح طيلة العرض ولا يهرب منك لحظة…

وما قاله أسعد فضة طبقه على المسرح فانسجم معه المشاهدون لمدة ساعة وربع الساعة من دون انقطاع وهو وحده على المسرح، وقد عبر أحد النقاد عن ذلك الانشداد إلى أسعد فضة بقوله: (لقد اغتصب أسعد اهتمامنا اغتصاباً..)

ونجاح أسعد فضة في دور المجنون إلى أقصى الحدود لا يعود إلى أنه ممثل جيد ومخرج جيد فحسب بل إلى أنه أمضى يومين في مستشفى المجانين يرصد حركات المجانين ويحفظها، وكذلك جلس لساعات مع طبيب مختص بالأمراض العقلية بالإضافة إلى مطالعته بعض الكتب.

    • المخرج قرب المجنون الروسي إلينا:

وبشكل عام اعتبر عمل ((يوميات مجنون)) تحدياً كبيراً نهض به المعد سعد الله ونوس ثم حمله المخرج فواز الساجر ثم قام به الممثل أسعد فضة. وكان كل منهم كاملاً في عملية المواجهة الفردية، فالمعد درس المبادرة الأولى لإرساء فكرة مسرح تجريبي في سوريا والبحث عن لغة جديدة ومناسبة لمخاطبة الجمهور المسرحي، والمخرج قدم النص الروسي بأطر وإسقاطات معاصرة وقرب المجنون إلينا بحيث نستطيع ان نواجهه في كل مكان، وأوجد لغة فنية واكبت المعطيات العالمية مع تقريبها إلى الواقع المحلي. والمخرج فواز الساجر الجامعي ثلاثية ((نكون أو لا نكون)) التي قدمت في المهرجان السادس ثم مسرحية ((رسول قادم من تميرة)) والآن ((يوميات مجنون)).

يمكن أن يقال الكثير عن أسعد فضة. فهو ممثل ومخرج ومدير للمسرح القومي. إلا أن عمله في (يوميات مجنون) يدعوني لقول شيء آخر. أن في عمله هذا درساً لي ولكل العاملين في الوسط الثقافي ومهما كانت الآراء، في النهاية في مستوى العرض.

يتبين للمشاهد بسرعة أن أسعد فضة قد بذل مجهوداً كبيراً في التدريب وفي التمثيل والعرض. وهذا المجهود هو الدرس. إن غالبية الممثلين لدينا مطمئنون بشكل مرضي – بفتح الراء – مطمئنون إلى شهرتهم (طالما أن الجمهور يراهم في التلفزيون) ومطمئنون إلى عملهم (طالما أن المخرجين مازالوا يطلبونهم للعمال وطالما أن العقود تنهال عليهم للعمل مع فرق الخليج العربي التلفزيونية والمسلسلات والأموال!)

لقد وصل الاطمئنان إلى درجة خطرة، لم يعد الممثل يحس بالحاجة إلى تطوير نفسه، وبذل الجهود لإتقان عمله إن الممثل يحس أنه قادر على إتقان دوره في أسبوع مهما كان معقداً أو طويلاً، المشكلة الوحيدة بالنسبة له هي مشكلة الحفظ.

لكننا بالرغم من تراكم آلاف العروض المسرحية والتلفزيونية والسينمائية سنظل نذكر، طويلاً، أن عصام عبه جي هو الذي مثل دور أيوب في (العنب الحامض) وأن هاني الروماني هو طرطوف وأن أسعد فضة بطل يوميات مجنون.

هذا يعني أن أسعد فضة يمثل الآن الدور الذي سيبقى في ذاكرة الجمهور طويلاً وطويلاً جداً. وهذا يعني أن أسعد فضة، الذي عمل الكثير، يحقق الآن جزءاً من طموحه وأن هذه هي الطريق الصحيحة للوصول إلى النجاح الحقيقي: العمل، العمل الدؤوب. ثم المزيد من العمل. التعلم والتثقف ثم المزيد من التعلم وما من أحد إلا ويحتاج إلى هذا العمل وهذا التعلم.

إن أي فنان يمكن أن يصرح لك مدعياً التواضع، أنه ما يزال في الطريق أو في أولها.. أنه لم يصل بعد. لكن سلوكه يناقض ذلك تماماً.. إن سلوكه ينبع من إحساسه بالنجومية وإحساسه بأنه قد وصل لا يطور نفسه، لا يتعلم ولا يتدرب ولا يقرأ ولا يطلع.

أسعد فضة نجح لأنه تنازل عن غرور الفنانين وقبل أن يتعلم (ليس من فواز الساجر بل من التجربة) وقبل أن يعمل بإشراف مخرج آخر (رغم أنه هو نفسه مخرج) وقبل أن يبذل مجهوداً كبيراً لا يحقق له ربحاً تجارياً سريعاً وآنياً.

هل هذا يعني أن أسعد فضة هو في قمة نجاحه الآن؟ لا. إنه في أعلى نقطة في حياته حتى الآن. لكن القمة بعيدة عن الجميع. ويمكن لأي فنان أن يصل إليها بالمزيد من الجهد. أسعد فضة قد يسقط إذا أحس أنه قد فعل كل ما عليه. وقد يستمر في النجاح كما نجح في (يوميات مجنون) إذا أحس، أمام كل عمل أنه مطالب بالمجهود ذاته.

أسعد فضة درس للممثلين جميعاً. لكنني واثق من أنهم لن يستفيدوا منه. فهم مطمئنون ونحن في حاجة إلى فنانين قلقين وخائفين وطامحين. أهم ما في الأمر أن أسعد فضة درس لأسعد فضة. ونحن نهنئه ونفرح به بمقدار ما ستفيده هذه التجربة للمستقبل.