







سهرة مع أبي خليل القباني / أحمد صوان
مسرحية (القباني) بالأساس هي مسرحيتان في عرض مسرحي واحد، أو قل هي مستويان: يتحدث الأول عن أبي خليل القباني، ومحاولته إرساء مسرح في القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1865، والظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت تتميز بها تلك المرحلة، وما تتسم به من سمات، وانعكاس هذه الظروف على محاولة القباني. أما المستوى الثاني فيستلهم التراث العربي، ويسلط الضوء على جانب هام من ماضينا، عبر حدث روائي هو: حب غانم أيوب لجارية هارون الرشيد، قوت الطوب، كما كان يقدمها القباني آنذاك.
- مستويان.. وأربع دوائر
وهذان المستويان عبر عنهما المؤلف، وجسدهما المخرج في أربع دوائر وهي: الدائرة الأولى القباني ومسرحه في العمق. والثانية.. حلقة الذكر على اليمين. والثالثة.. المقهى – الشارع على اليسار.. والرابعة.. قبالة الجمهور وهي لعبة الولاة كما يرويها التاريخ.
والدوائر الأربع هذه.. كانت تسير بعضها مع بعض في عرض مسرحي استخدم فيه الرقص والغناء، والمحاكاة، والموسيقى ضمن خطوات متوازية حيناً، ومتقاطعة أحياناً أخرى، وتكشف هذه الدوائر ليس فقط طبيعة التناقض في المواقف بين الفئات والطبقات الاجتماعية وإنما توظف هذا التناقض في مهمة توضيحية للظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة.
- مسرح ونوس.. وبريخت
إن سعد الله ونوس لم يتناول القباني كفرد وموقف إلا ضمن الظروف الاجتماعية والمفاهيم التي كانت تسود في فترة من أدق فتراتنا التاريخية وهي بدء النهضة وعصر التنوير، ومرحلة التكون القومي العربي، معتمداً في ذلك على الحقيقة المادية التي تقول: “ليس وعي الناس هو الذي يقرر وجودهم، ولكن على العكس من هذا، فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يقرر صورة وعيهم”.
في مسرحية (القباني) نحن أمام عمل بريخت مئة بالمئة، ولكن بصيغة عربية، وبفهم عربي لعلاقات الإنسان بالمجتمع، ولقضاياه الأخلاقية والسياسية، فكما كان بريخت يستخدم الأسطورة والحكاية الشعبية والقصص الخرافية والموسيقى والرقص والمحاكاة، كذلك ونوس استخدم ذلك كله في مسرحيته، ونجح المخرج أسعد فضة في توظيف ذلك فنية بشكل أوصل للجمهور جملة القضايا والمفاهيم التي تناولها ونوس في نصه المسرحي.
- سهرة غنية..
تبدأ المسرحية بقرع الطبل، ودعوة المنادي لحضور مسرحية السهرة، تماماً كما كان الحال عند القباني قبل مائة وعشرة أعوام. يقول المنادي: سهرتنا هذه الليلة مليئة، وغنية بالحكايات، خيالية وواقعية، فيها غناء ورقص وتشخيص. ثم نبدأ نتعرف على الملامح الأساسية لذلك العصر، كل دائرة.. أي كل فئة اجتماعية تمثل مفهوماً من مفاهيم المجتمع تقوم بالتعبير عن نفسها.. فماذا نجد؟
- القباني.. وفن التشخيص
- القباني وجماعته وكيف بدأ العمل، ومحاولته تقديم رؤية (ناكر الجميل) التي قدمها في بيت جده، والصعوبات التي تعترضه كإسناد دور امرأة لشاب لأن الوضع الاجتماعي يرفض مشاركة المرأة للرجل. ومفاهيم القباني حول المسرح، وبعض رؤياه الفنية والاجتماعية.. يقول: كل شيء يبدأ صورة في الخيال ثم يتحقق. والإقناع أساس فن التشخيص. وسيحدث يوماً أن تشخص امرأة في الشام أي تظهر على خشبة المسرح.. وترى أيضاً استفادته من تعاقب الولاة والتشجيع الذي لاقاه من بعضهم، وكيف أقام مسرحاً عاماً في كازينو الطليان في باب الجابية.. وإصراره على ضرورة توفر العزيمة حتى يحقق ما يريد.. وأخيراً يغادر سورية بعد إحراق المسرح من المتزمتين إلى مصر، ليواصل مسيرته الفنية. التشخيص بدعة وحرام
- المحافظون والمتزمتون، وهم الذين يقفون ضد القباني لأن عمله ضلال، وكالهواء الأصفر، ينشر الفساد، ويفسد أخلاق العامة. فكيف، يتساءل هؤلاء يترك القباني حلقات الذكر إلى هذه الأعمال (الشائنة).. إنها بدعة، ولا يجوز السكوت عنها، ولا يجوز أن تخرج إلى الناس، والتشخيص كالتصوير كلاهما حرام في الدين. إنه بدعة وكل بدعة حرام. وهؤلاء من خلال علاقاتهم المصلحية بالسلطة العليا يتصدون للقباني ويعملون على إفشاله، وينجحون في ذلك حيث يقومون بتهديم حرمه وحرق أثاثه. التكون القومي والدعوة للتحرر
- دعاة التحرر والنهضة، هؤلاء ليسوا في صراع فقط أو تناقض مع السلطة السائدة – العثمانية، وإنما أيضاً في حالة تناقض مع المحافظين، وهم من المؤيدين لمحاولات القباني أيضاً. فكيف عبر دعاة التحرر والتنوير عن موقفهم؟ الجواب: هو أن البلاد الأوروبية تسبقنا ولا بد من التقدم. والمسؤول عن التأخر هو الدولة العثمانية نتيجة الفساد والاستبداد. إن كياننا لن يشتد مع التأخر والجهل، وإقامة مسرح هو خطوة هامة إن لم نشجعها سيقتلها الجهال والمحافظون. لعبة الولاة.. مسلية وجارحة.
- الولاة، وهم الذين يمثلون البناء الفوقي السلطوني والاستبدادي. فبين عامي 1879- 1971 تعاقب على الشام أحد عشر والياً. فلا يكاد يصدر فرمان التعيين، حتى يكون فرمان العزل قد سبقه. إن لعبة الولاة التي عاشها شعبنا كانت مسلية، ولكنها جارحة. كانوا يواجهون مشاكل الناس باللامبالاة، وعدم الاكتراث، وكأنه ليس ثمة مشاكل طالما أنه ليس هناك تعد على مصالح الدولة. ومن بين الولاة، يبرز صوت الوالي مدحت باشا الذي عرف بأبي الدستور. ففي عهده انحسر المد المحافظ الرجعي، وازداد المد التحرري القومي العربي، فدعاة التحرر استفادوا من الانفراج النسبي الذي ساد فترة ولايته (الدستور – الحرية – إلغاء السخرة – تمثيل الولايات – نشر التعليم – اعتماد اللغة العربية في المحاكم) إلخ.
- المسرحية بين ونوس وفضة..
لقد استطاع المخرج أسعد فضة أن يجسد أبعاد هذه الدوائر فنياً، وبصيغة أبعدت الملل، المتوقع أن يخيم على العرض بما تضمنته المسرحية من وثائقية، وساعده على ذلك الرقص والغناء وهي من صلب المحتوى.
إن ونوس وفضة في هذا العرض المسرحي يؤكدان ليس فقط على أنه من الضروري استلام التراث كمحاولة في فهم الواقع وأبعاده على المستوى الفني، وتقريب الماضي نحو الحاضر.. وإنما أيضاً يؤكدان في الوقت نفسه حقيقة هامة وأساسية وهي أن إيجاد مسرح عربي له خصائص وسمات متميزة ليس صعباً.. وهذا الطموح قابل للتحقيق، إذا ما توفر له الفهم العلمي لتناقضات المجتمع، وإدراك قضاياه. ومعرفة طبيعة العلاقات السائدة في عصر معين أو مرحلة تاريخية.. وهذا ما توفر بشكل عام في مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني).
أحمد صوان.
سهرة مع أبي خليل القباني / الأسبوع العربي (ر.ك)
ليست هذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها الجمهور في ألمانيا الديمقراطية مسرحية: فقد قدمت فرقة المسرح الوطني في فايمار عام 1973 بنجاح مسرحية: (مغامرة رأس المملوك جابر). أما هذه المرة فقد تمكن جمهورنا من التعرف على مسرحية جديدة للكاتب هي مسرحية (سهرة من أبي خليل القباني) قدمها له وباللغة العربية أعضاء فرقة المسرح القومي السورية خلال المهرجان التاسع عشر للموسيقى والمسرح الذي يقام كل عام في برلين، وضمن إطار الفعاليات الكثيرة التي يتضمنها تنفيذ الاتفاقية الثقافية بين جمهورية ألمانيا الديمقراطية والجمهورية العربية السورية.
لا شك بأن تقديم مسرحية ما أمام جمهور لا يعرف اللغة التي تقدم فيها المسرحية يعتبر في حد ذاته مغامرة. يضاف إلى هذا كون هذه التجربة هي التجربة الأولى من نوعها بالنسبة لفرقة المسرح القومي، إذ أن أعضاءها وقفوا لأول مرة أمام جمهور أوروبي لا يعرف لغتهم. ولكن على الرغم من هذا فقد برهن نجاح العروض التي قدمت في بلاون وساجدبورج وبرلين على تفهم الجمهور الألماني للمسرح العربي. فمن خلال التقسيم المرئي لخشبة المسرح تمكن المخرج من الفصل بين المستويين الرئيسيين اللذين يدور فيهما الحدث التاريخي المتضمن لتصارع فئات اجتماعية مختلفة في القرن التاسع عشر من جهة وقصة مسرحية (هارون الرشد مع غانم بن أيوب وقوت القلب) للقباني الذي تدور حول نضاله من أجل خلق مسرح عربي في دمشق من جهة أخرى.
وقد أدى ذلك إضافة إلى الفعل المسرحي الحي والأداء الذي ركز على الحركة الإيمائية إلى تمكين الجمهور الألماني من فهم الخط الأساسي للمسرحية على الرغم من حاجز اللغة. ولا بد لنا من أن نضيف إلى أن ما جاء في الكراس القيم من إيضاحات وافية حول تطور المسرح السوري عموماً والمسرح القومي خاصة، وحول الكاتب والمسرحية إلى جانب التعليقات التي قدمها من على خشبة المسرح الدكتور عادل قرشولي باللغة الألمانية خلال العرض حول الحدث المسرحي والخلفية التاريخية، ساهم كذلك مساهمة كبرى في توصيل جوهر المسرحية للجمهور.
تجري أحداث المسرحية كما سبق وذكرت على مستويين رئيسيين: المستوى الأول يقدم لنا محاولة أبي خليل القباني خلق مسرح تقدمي في دمشق في النصف الثاني من القرن الماضي والمستوى الثاني يعرض علينا بعض الأجزاء من مسرحية للقباني نفسه بعد أن أجرى عليها المؤلف بعض التعديلات الطفيفة. وهذان المستويان يتقاطعان ويتداخلان في حركة مستمرة.
إن إيجاد علاقة بين خشبة المسرح والصالة هو أحد الأهداف الرئيسية التي يطمح لتحقيقها سعد الله ونوس. من هذا المنطلق يحاول بناء مسرحياته بحيث يسهل على الجمهور إيجاد هذه العلاقة التي تمتد حتى لتشمل أحياناً محاولة إدخال الجمهور في الحدث المسرحي. ففي بداية مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني) مثلاً – يدخل بعض الممثلين (كمتفرجين) إلى الصالة ليجلسوا في الصف الأول ويعلقوا على الحدث، وتقابل تعليقاتهم بتعليقات مضادة أحياناً من قبل الممثلين. ولا جدال بأن مشهد المشاجرة التي تحدث في مقدمة الصالة بين هؤلاء (المتفرجين) حول أحد المشاهد والذي يضطر فيه الممثلون الآخرون إلى مغادرة خشبة المسرح للتفريق بين المتخاصمين شكل عنصراً مسرحياً ناجحاً في محاولة إيجاد التواصل المتوخى في محاول إيجاد التواصل المتوخى بين الصالة وخشبة المسرح، ولكن المؤلف لا يلبث أن يتخلص من هؤلاء (المتفرجين) فيخرجهم من الصالة احتجاجاً على مشهد آخر.
ولا ينكر أن استخدام هذه الوسيلة كان من العناصر المسرحية التي أثارت إعجابه وشدته إلى الحدث. وثمة مشاهد أخرى كانت ممتعة بالنسبة للجمهور الغريب، نذكر منها على سبيل لا حصر له:
- مشهد العجوز المرتجفة التي روت قصة قوت القلوب.
- مشهد الفتاة الخجول التي قام بدورها في مسرح القباني رجل.
- ردود فعل قوت القلوب وغانم على كلمات الملقن.
- مشهد النهاية السعيدة الساذجة لقصة الحب التي جاء أشبه بفرقعات الألعاب النارية في ختام احتفال.
لكن هذا لا يعني بالطبع أن تفهم الجمهور للمستوى الثاني للحدث الذي يتمثل في نضال القباني لخلق مسرح عربي في دمشق في ظل ظروف السيطرة الاستعمارية الصعبة كان أقل من تجاوبه مع المستوى الأول. فالحدث هنا ليس حدثاً تاريخياً له علاقة بالحاضر، ليس قصة تهمنا لغرابتها، بل هو حدث لعصرنا. فالقباني في المسرحية هو قريب منا، نضاله يستوجب تعاطفنا، وهزيمته تبعث في نفوسنا الأسى. هذا لأن سعد الله ونوس لم يهتم بمصير هذه الشخصية كإنسان فحسب، بل ربط نجاح محاولته وفشلها بالقوى التي وزعت على يمين خشبة وعلى يسارها، قوى رجعية متحالفة مع الأتراك، وقوى تقدمية متحالفة مع الشعب. وقد كانت قوة هذه القوى أو وصفها هما العنصرين الحاسمين في تطور أو جمود التجربة المسرحية للقباني. فحركة التحرر الوطني مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطور مسرح قومي. ومن هنا تنبع العلاقة بين الماضي والحاضر: إذ أن المسرح العربي الفتى الباحث عن هويته يريد أن يحقق ذاته من خلال كشف ماهية تقاليد المسرح العربي، فالقضية الجوهرية هن أساساً سواء بالأمس أو اليوم هي قضية السيطرة الاستعمارية الطويلة وآثارها المتبقية.
وفي خضم محاولة التخلص من هذه الآثار يندمج التحرر السياسي بالتحرر الثقافي، ويتطلب التحرر الحقيقي وعياً قومياً تقدمياً يعتبر تكوينه وتطويره في وقتنا أحد أهم الأهداف الملقاة على عاتق المسرح. لقد تمكنت العروض من توصيل هذا المحتوى في خطوطه العامة إلى الجمهور في ألمانيا الديمقراطية من جهة وحمله على التجاوب مع هذا المحتوى من جهة أخرى. وفي هذا الصدد قال أسعد فضة مخرج المسرحية:
(كان تجاوب الجمهور مع عروضنا سواء في بلاون أو ماجدوبورج أو برلين مشجعاً للغاية. لم يكن هذا التجاوب بأقل من تجاوب جمهورنا في دمشق على الرغم من أن الجمهور هنا لا يفهم اللغة. كان الجمهور هنا وكأنه يعرف المسرحية من قبل.)
وفي المقابلة الحارة والمفيدة جداً التي جرت بين أعضاء فرقة المسرح القومي وعدد من المسرحيين في ألمانيا الديمقراطية في النادي المركزي لنقابة الفنانين ببرلين عبر المؤرخ والعالم المسرحي الدكتور يواخيم فيباخ عن رأيه في العرض على الشكل التالي: أثار انتباهي في العرض جانبان رئيسيان:
فمن ناحية يمكنني أن أعتبر المسرحية بحثاً في النقد الاجتماعي حول المجتمعات المضطهدة في تلك المرحلة التاريخية وبصفة عامة. ومن ناحية أخرى: كانت المسرحية ممتعة للغاية، لا بالنسبة للمتفرجين فقط بل وكذلك بالنسبة للممثلين أنفسهم كما تجلى هذا بوضوح.
أما راينر كيرندل الكاتب والناقد المسرحي المعروف فقد كتب في مقال نشر في جريدة (نوير دويتشلاند) لسان حال الحزب الاشتراكي الألماني الموحد بما يلي:
(إن المسرحية فانوس التي قدمتها فرقة المسرح القومي السورية للجمهور الألماني تمثل إلى حد كبير قصة المسرح العربي على خشبة المسرح. فهي بجانب ذلك تعرض قضية النضال الوطني في جوانبه الثقافية وسياسة الفكر. أن الصراع من أجل خلق مسرح وطني عربي، والذي يندلع أوراه في آخر مشاهد المسرحية، حيث نرى الجنود الأتراك يطردون الممثلين من على خشبة المسرح، هو في الحقيقة أحد البعد الثاني فيتمثل في عرض لبعض مقاطع إحدى مسرحيات القباني نفسه بكل ما تحمل من ملامح أسطورية. إن المسرح الشعبي والنضال من أجله يظهران من خلال العرض بصورة متداخلة.
بهذا العرض الذي قام بإخراجه أسعد فضة حمل المسرح القومي من دمشق إلى مهرجانات برلين أحد الأمثلة المليئة بالمعلومات والألوان الزاهية عن نشاط المسرح العربي المعاصر.
ر.ك
سهرة مع أبي خليل القباني / المجتمع
عمل فني متكامل للمسرح السوري
انتقاد سياسي واجتماعي للواقع.. في قالب تاريخي
مخرج المسرحية أسعد فضة.. بطلها الحقيقي
مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني) هي أول العروض التي يقدمها المسرح القومي السوري على مسرح المعاهد الخاصة. والمسرحية تقع أحداثها منذ مائة عام في دمشق، عندما كان أبو خليل القباني رائد المسرح السوري.
والمسرحية من تأليف سعد الله ونوس الذي شهدت له الكويب مسرحية (رأس المملوك) وله أيضاً مسرحية (القيل يا ملك الزمان) وبذلك وضع سعد الله ونوس نفسه في إطار المؤلف الذي يستلهم أفكار مسرحياته من التراث والتاريخ الإسلامي، ويسقط ذلك على واقعنا المعاصر. وتتميز مثل هذه النصوص بأن المؤلف يستطيع من خلالها أن يقول بصدق وصراحة ما يريد أن يقول من خلال أحداث التاريخ، دون أن يجد صعوبة في التعبير عنه بصورة مباشرة بالنسبة لحياتنا وواقعنا المعاصر.
لذلك مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني) اتخذت عدة أبعاد ومستويات على خشبة المسرح الواحد.
- البعد الأول. هو خشبة مسرح خليل القباني، وكيف بدا هذا الفن في قصور الوجهاء والعظماء من أهل دمشق، ثم نزل إلى أبناء الشعب الذي يستقبل كل ما هو جديد على حياته بشعور يتباين بين الرفض والتأييد.. ومن خلال مسرح القباني تطرق النص إلى تاريخ هارون الرشيد وقصة حبه مع جاريته قوت القلوب.. والجملة المضيئة في هذا البعد التاريخي هو تعرية وكشف لهو الحكام في جريهم وراء متعتهم وبعدهم عن الاهتمام بأمور الدولة والدين. ومع البعد الأول قام المؤلف بالتعريف بحياة أبي خليل القباني ومعاناته مع عصره وأهل وطنه والمحيطين به من المعاصرين لنشأة المسرح السوري المعاصر في دمشق.
- البعد الثاني هو (الرعية) مع التعرض لحياتهم واهتماماتهم وأفكارهم وسلوكهم. وقد انقسم هذا البعد إلى مشهدين: مع مشهد الشباب وروح الثورة في داخله في مرحلة مخاض للتخلص من الحكم العثماني، والجدل والنقاش الدائر حول الأفكار المطروحة في ذلك الوقت. العرب والقومية العربية.. الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية.. الحرب مع روسيا القيصرية.. طبع منشورات! والمشهد الثاني هو رجال الدين وموقفهم من أحداث عصرهم وتركز اهتمامات بعضهم بالمظهر الديني دون الفكر الديني وجوهره.
- أما البعد الثالث على خشبة المسرح فكانت لعبة توالي الولاة على ولاية الشام، حتى بلغ عددهم أحد عشر والياً في ثمان سنوات. ثم جاء مدحت باشا لتميز عصره بالإصلاح الاجتماعي، وهنا يحدد المؤلف رأيه في الدولة العثمانية بأنها فترة استعمار للدول العربية..
- والبعد الرابع والأخير هو الدور الذي قام به الممثل ياسين بقوش منذ دخوله إلى المسرح بين صفوف الجماهير منادياً وداعياً لجوقة أبي خليل القباني، ثم دور الراوي لأحداث النصر وقيامه باستقبال الولاة وأخيراً مخاطبته لجمهور المسرح وانفعاله مع الناس حتى (تسقط) عليهم الأحداث ارتباطاً بواقعهم وحياتهم المعاصرة.
وأخيراً تنتهي المسرحية برحيل أبي خليل القباني إلى مصر، حيث الأرض أكثر رحابة وأكثر استعداداً لتقبل مسرحه.
المخرج المتمرس:
المخرج أسعد فضة هو البطل الحقيقي للمسرحية. فمع وجود الأبعاد الأربعة المختلفة للمسرحية على خشبة المسرح الواحد، إلا أنه استطاع أن ينتقل بينها دون افتعال أو تفكك، وجاء النقل سهلاً وبسيطاً، مستخدماً بذلك الأضواء الكاشفة.
أيضاً استطاع تطويع الموسيقى التصويرية في تعميق ما أراد أن يقوله من خلال النص. والمعروف أن المخرج أسعد فضة هو مدير عام الفرق المسرحية والموسيقية بوزارة الثقافة السورية، وهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة.
سهرة مع أبي خليل القباني / عبد الستار ناجي
كتب عبد الستار ناجي:
تحت رعاية الأستاذ عبد العزيز حسين وزير الدولة الرئيس الأعلى للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، قدمت فرقة المسرح العربي السوري عرضها الأول مسرحية – سهرة مع أبي خليل القباني – من تأليف الأديب السوري الطلائعي سعد الله ونوس وإخراج أحد عمالقة الإخراج في الوطن العربي أسعد فضة، مدير الفرقة.. وشارك في تقديم العمل حشد كبير من ألمع نجوم المسرح في القطر العربي السوري الشقيق منهم: محمود جركس ومها الصالح وياسين بقوش ورياض نحاس وبسام أبو غزالة وعبد السلام الطيب وحسين إدلبي وأميمة الطاهر وأحمد عداس وفايزة شاويش وعبد الله عباسي ورياض شحرور وعدنان بركات، إضافة إلى مجموعة أخرى من نجوم المسرح القومي.
مفاجأة في طابع النص التسجيلي وإجادة في تغيير الزمن
النضوج في أسلوب التعامل مع النص.. صرخة في عالم الحركة
- مقدمة:
لعل المشاهد يصاب بالدهشة بالمفرطة أمام ما يشاهده من رصانة ودقة متناهية، وعمل دائب صور، من خلال رؤية إبداعية متطورة واعية، ومتفهمة، وساعية بصدق وإيمان للبحث عن وجه حقيقي للمسرح العربي الذي أصبحت عطاءاته إحدى العلامات المميزة في المجال المسرحي، رغم التعتيم الإعلامي الموجود إضافة للجهل المطبق في أسلوب التعامل والشرح والإيضاح، والتشريح المنهجي البعيد كل البعد عن العلاقات الشخصية، والغايات الهدامة، التي كانت دافعاً لاتقاء مجموعة من الفقاعات الهامشية على السطح وفي المقابل، طمست بعض العلامات المميزة في المسرح العربي، من خلال بعض الحذلقات والمزايدات الاعتباطية.
وعمل مسرحي بمثل هذه الدسامة والزخم يصعب على المرء تحليله لمدى التفاعلات الدرامية المكثفة الموجودة خلاله.
ولعل كلمات الناقد – جون كرو رانسوم – صاحب مذهب النقد الجديد عام 41 – إذ يرى هذا الناقد أن عملية تحليل بعض الأعمال الفكرية الناضجة قد تدمر العمل وتشوهه، ولهذا تصبح عملية تحليل العمل الفني عبثاً بل يصبح عبثاً كذلك أن يحاول الفنان وضع عمله في شكل خاص.
من خلال هذه الحيثية يكون المنطلق والمسعى في إيضاح الملامح الجمالية الصرفة في العمل، والأساليب المنهجية، في أسلوب التعامل لكل من المؤلف والحدث، والمخرج وكيان النص العام، وبلورته في بوتقة واحدة من خلال عدة أزمنة انصهرت في قالب عمل مسرحي إضافة للتفاعلات الشفافة بين المجموعة بكاملها، وبالتالي الخروج بعمل مسرحي متمكن، يمثل اتجاهاً جاداً للحركة المسرحية في الوطن العربي.
ما يميز هذا العمل هو التكاتف والتفاعل المنطقي بين فعاليات العمل كاملة، والتجانس بين الحس التقدمي عند الكاتب والحس الإبداعي الراقي عند المخرج في رسم الحركة.
والواقع أننا لو دققنا أكثر في أفكار سعد الله ونوس خاصة ما جاء فيها بما يتعلق بوظيفة البناء في العمل فسوف نجدها تتطابق كثيراً مع أفكار أسعد فضة فلقد أوضح الأخير أن الدلالات في النص لا قيمة لها في ذاتها إذ لا تتعدى وظيفتها خلق المواقف التي يوحدها الحدث، ولكن الارتقاء الفكري الإبداعي عند ونوس كان كافياً لخلق تركيبة حديثة رهيبة في صباغة النص التسجيلي الذي يعتبر وثيقة صادقة، من خلال روايات ووثائق لا يمكن الطعن بها، ومن خلال استلاله واستلهامه الزمن الآخر وذلك لإبراز عاطاءات وفعاليات أبي خليل القباني ولم يأت هذا الاختيار اعتباطاً، بل ليتمشى مع طابع النص، الساعي وراء الوجه العربي، في المسرح.. وهي صفة تغبط عليها المجموعة، فهذا السعي مرده الإيمان بالواقع، وثمرته علامات بارزة من الأعمال المسرحية، فهذه المجموعة إضافة لمجموعة الصديقي في المغرب والساخر في سورية أيضاً ومحمد قاسم وإبراهيم جلال في العراق.. ومجموعة الحبيب في القاهرة ومجموعة الجادة التي تفجرت في الكويت مؤخراً ما في إلا علامات بارزة في مسيرة الحركة المسرحية خلال المائة عام. أي منذ صراع أي خليل القباني في الشام للخروج (بالكميظة) أو التمثيل أو(الفرجة) إلى الناس بعد أن اجتاحت أكشاك الأراجوزات (الكركوز) بقاع الوطن العربي حتى هذه السويعات التي تقترب من أكبر تجمع مسرحي يشهده القطر السوري الشقيق سنوياً في مهرجان دمشق المسرحي.
- النص:
إحدى روائع سعد الله ونوس، وإحدى فلتاته، فهو صاحب (حملة سمر من أجل 5 حزيران) التي كانت بمثابة الهذيان الحقيقي بعد النكسة وقد قدمت معظم الدول العربية كما أنها ترجمت إلى الفرنسية والإسبانية وونوس هذا يمتلك الصراحة، والخلقية الثقافية المتمكنة، التي من خلالها يغوص في عمق التراث العربي سابراً غوره متعمقاً في بطونه مستلاً لنا منه الدرر الأدبية، والتحف الشرقية، التي جادت بها قرائح الكتّاب العرب.
وقد قدم ونوس العديد من الأعمال المسرحية منها: (الفيل يا ملك الزمان) و(صعد الدم) و(مأساة بائع الدبس الفقير) وأخيراً (رأس المملوك جابر) التي قدمها المسرح الشعبي الكويتي مؤخراً بعد أن قدمت في ليبيا وسورية والجزائر وألمانيا بعد ترجمتها. (سهرة مع أبي خليل القباني) محاكاة لعذاب الفنان العربي، وتأكيد لقضية الصراع الأدبي بين القوى التقدمية والقوى المحافظة.. لقد صور لنا من خلال قصة أبي خليل القباني وجهده الدائم من أجل تقدم المسرح وبنائه صورة وكادراً وثائقيين عن الفترة الزمنية اللعينة من تاريخ الإنسان.
سهرة مع أبي خليل القباني / وليد أبو بكر
جاء المسرح القومي السوري أخيراً، ليمسح بعض التفاهات التي شاهدناها في الكويت قبله مباشرة، جاءنا هذا المسرح جاداً، ملتزماً، يحمل اسم بلده، مدعواً من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب من خلال دراسة وتدقيق..
وتاريخ المسرح القومي السوري قصير، لكنه كبير.. فمنذ لحظة ولادته، استطاع أن يضع لنفسه خطاً، هدفه الأول والأخير أن يقدم للناس مسرحاً جاداً.. كما يجب أن يكون عليه المسرح الذي يحمل رسالته.. وخلال مسيرته، استطاع هذا المسرح أن يخلق فنانين، وأن يخلق كتاباً.
سعد الله ونوس مثلاً، هو واحد من الذين ولدوا بين يديه، وقد جاءت ولادته ناضجة. فبعد تجربة أولى في المسرحيات القصيرة، جاءت تجربته الثانية في المسرحية – الضجة (حفلة سمر من أجل 5 حزيران).
ثم تتالى الإنتاج.. وقدم سعد الله ونوس (رأس المملوك جابر) التي أتقن تنفيذها المسرح الشعبي في الكويت لهذا الموسم، فعرف الناس على أسلوب خاص في التأليف المسرحي..
ومسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني) هي تكريس لهذا الأسلوب الجديد.. أسلوب التعامل مع التراث، شكلاً، وموضوعاً، مع محاولة تقديمه للحاضر.. بفكر الحاضر وتطلعاته..
مسرحية (القباني) من حيث الشكل قريبة الشبه بمسرحية (المملوك).. ولكنها تؤكد تطور الصنعة المسرحية عند مؤلفها. فإذا كانت (المملوك) تقدم بمستويين.. وأحد من الماضي، وآخر من الحاضر.. فإن (القباني) تقدم بعدة مستويات، أبرزها الماضي البعيد – عصر هارون الرشيد – ثم الماضي القريب – عصر أبي خليل القباني – ثم الحاضر، متمثلاً بالمتفرجين الحقيقيين والراوي..
والحكاية التي تقدمها المسرحية، مؤلفة من مجموعة حكايات، لا يستطيع إلا كاتب قادر أن يجمعها بإتقان.. وقد فعل سعد الله ونوس ذلك.. فهناك حكاية للقباني نفسه، تاريخاً ومعاناة.. وهناك المسرحية التي يقدمها.. والتي حافظ فيها المؤلف على لغة قريبة من لغة العصر الذي قدمت فيه، وحافظ فيها المخرج على أسلوب الأداء..
وهناك حكاية السياسة، والنضال في عصر القباني.. وهناك أيضاً حكاية الصراع الاجتماعي، بين القديم والحديث.. وفي هذا الصراع، تكمن أهمية المسرحية.. (سهرة مع أبي خليل القباني) تثير نقطة أساسية من وراء كل ما تقول، هي النقطة التي تثار الآن، وفي كل آن.. هي نقطة الصدام بين الجديد المتطور.. والجامد المتحجر..
وهي مسرحية تتحدث عن المسرح أولاً، ولكنها تتخذه كمثل للجديد، لتعرض به ما يعانيه الجديد من حرب، قبل أن يستطيع الوقوف على قدميه.. والمسرحية لم تترك الحوار حول المسرح منفصلاً عن كل ما حوله. المسرح حركة جديدة ومتطورة في المجتمع، وهو مرتبط بكل الحركات المشابهة: السياسية، والثقافية، والاجتماعية. ففي الوقت الذي كان فيه أبو خليل القباني يحاول أن ينشئ مسرحاً، ويصارع القوى المتخلفة التي تقف في وجهه. كانت الاتجاهات القومية تصارع الحكم التركي، وتتعرض للتنكيل.. وكانت الحالة الاقتصادية والسياسية تسوء..
وقد استطاعت المسرحية أن تقدم كل هذا، تاريخاً، وفكراً.. وهنا تكمن قوتها السياسية. النقاط الأساسية في الصراع، التي قدمتها المسرحية كانت نقطتين متناقضتين: الأولى هي الإيمان بالمسرح عند القباني، والصراع من أجله، والثانية هي مجموعة من الذين يسعون لبقاء الأمور على حالها، ممثلة بالشيوخ، الذين لا هم لهم إلا تبرير ما تفعله السلطة العالية، وتفسير كل النوائب التي تمر بالبلاد تفسيراً يتفق مع مقام السلطة.
هذه الفئة ركزت كل جهودها في محاربة القباني، لا بالفكر، وإنما باستعداء السلطة، وبترديد أسباب لمعارضتها لا تخرج عن الاتهام بالزندقة، والفساد.. وهي الأسباب القديمة الجديدة.. وقد وصل الأمر مع هذه الفئة إلى حد معارضة الوالي الذي فتح نافذة للإصلاح، استطاعت الحركات العربية الفنية أن تنشط من خلالها، ثم اتسع حتى وصل إلى حد استعداء السلطان نفسه على القباني.. وحرق مسرحه..
وكان موقف القباني هو الموقف الأكثر أهمية في العمل.. القباني.. يعني في ذهن سعد الله ونوس، الفكر الجديد، والفكر الجديد إيمان وعمل.. ومثابرة لا تعرف اليأس، رغم كل المصاعب.. القباني آمن، وعمل عملاً متواضعاً من داخل المنازل، حتى عرف بعمله، فخرج إلى الناس.. وصار قوياً، ثم انتكس، لكنه لم ييأس.. وعادت إليه تجربة القوة فعمل.. وجاءت نكسة كبرى.. لكنه حتى النهاية لم ييأس..
وهكذا يكون الفكر الجديد في كل عصر: يبدأ الطريق خطوة خطوة، وينتشر، ويسرف، وينتكس، لينهض.. ويعود من جديد.. ويحارب كل المعوقات.. حتى يصل في النهاية إلى ما يطمح إليه.. وحتى توضح المسرحية فكرها، وعموميتها – رغم اتخاذها مسرح القباني كنموذج فقط – وضعت في داخلها إشارات: فهذا صاحب الأرجواز يحارب المسرح، من واقع اقتصادي، لأنه يؤثر على مهنته، وهؤلاء الشيوخ يحاربون المسرح، لأنه يتقدم عليهم في تثقيف الناس، وقد يأتي اليوم الذي (يشخصهم أو يشخص أمثالهم من الوجهاء).. فتضيع قيمتهم ويهتز مركزهم.
وبالمقابل.. هناك الشباب الذي يبدو متردداً أمام ما يجري على مستوى السياسة، حتى يفتح ذهنه من خلال زميل متنور (يرتدي الملابس الحديثة).. فينتهي تردده، ويبدأ مرحلة إيجابية من النضال القومي.
باختصار.. المسرحية تدعو إلى الجديد.. وهي في هذا تقدم صورة من واقع سابق، يستطيع المشاهد أن يحملها كصورة، وأن يضع تفاصيلها في واقع معاصر.. ومناسب، حتى يلاحظ أن المسرحية تتحدث إليه بلغة العصر، وبقضايا العصر أيضاً.
وهذا تطبيق ناجح لما يدعو إليه الأدباء – وخاصة الشباب – من استخدام التراث في معالجة قضايا العصر، وفي ذهنهم أمران: الأول هو أن تكون للمسرح العربي شخصيته، حين يستفيد من الشكل.. ومن المضمون. والثاني هو إحياء التراث نفسه كجزء من حضارة الإنسان العربي، وذلك بتقديمه بالصورة التي يقبلها إنسان هذا العصر.
وقد نجح سعد الله ونوس في تحقيق الهدفين. ونجح المسرح القومي السوري في تقديم الكلمات المكتوبة على الخشبة.. إخراجاً قام به أسعد فضة.. وتمثيلاً قام به نجوم المسرح.. فمسحوا بعض الآلام التي تكدست قبلهم بقليل.. بسبب المسرح التجاري المتهاوي.. فإلى مزيد من هذا المسرح… إلى مزيد.