أسطورة ((انتصار الخير على الشر))، هذه الأسطورة السحيقة العمر، الموغلة في القدم، والتي عاشتها الإنسانية منذ فجر حياتها، فالتقينا بها ممثلة في أسطورة جلجامش البابلي وميكارت الفينيقي وهرقل اليوناني ثم رأيناها تتخذ أسماء مختلفة في أجواء مختلفة عبر التاريخ، هذه الأسطورة كانت هي الأساس الذي اعتمده المسرحي الروسي يفجيني شفارتس أساساً لمسرحيته الشهيرة. ((التنين)) فهي لهذا تثير فينا، ونحن نقرأها أو نشاهدها، ذكرى تلك القصص التي سمعناها أطفالاً عن الأشباح الخرافية التي تختطف الأطفال لتمتص دمائهم أو الغيلان الرهيبة التي تقتنص العذارى حتى يتصدى لها فتى مغامر بهي الطلعة فيصرعها ويخلص الناس من شرورها كما تعيد إلى أذهاننا أسطورة تيسيوس، بطل أثينا ومخلصها والذي خرج لقتال المنيوطور الشنيع الذي له جسم إنسان وهامة ثور (أورد شفارتس اسم تيسيوس في مسرحيته ليشير إلى أن بطله يحمل أسماء مختلفة لدى مختلف الشعوب. وملخص أسطورة تيسيوس – حسب رواية بلوتارخ – هي أن ملك كريت كان قد فرض على أثينا ضريبة بشرية، وهي أن تدفع له كل تسعة أعوام بسبع من صباياها وبسبعة من شبابها ليطرحهم في قصر لابيرنيت ذي المتاهات فيكونوا طعاماً للمنيوطور الشنيع. وقد تطوع تيسيوس للخروج إلى كريت وخاض ألواناً من المخاطر حتى قتل الوحش وخلص منه قومه) ومهما يكن من أمر فليست حادثة انتصار البطل على التنين إلا جزءاً من ذلك العالم العريض الواسع الذي نعيشه في المسرحية فقد استطاع شفارتس أن يخرج بأسطورته عن حدودها المألوفة التي تعارفت عليها الآداب الفلكلورية لدى مختلف الشعوب، وأن يعمق معانيها البعيدة ويوسع حدودها ويرتفع بها إلى آفاقنا المعاصرة حتى أصبحت جديرة بأن تسمى ((أسطورة من عصرنا الحاضر))، كل هذا دون أن تفقد الأسطورة فطريتها الرائعة وبساطتها الشعبية وتأثيرها الفريد.

التفكير بأن المدينة لا تعيش إلا من أجل إطعام تنينها وإرضائه. وهي فوق كل ذلك تقدم له كل عام الفتاة التي يصطفيها بنفسه فما أن تتم عملية تسليم الفتاة حتى ينتهز سكان المدينة الفرصة لإبراز عواطفهم الإنسانية – فوجود التنين لم يسيء إلى العلاقات الإنسانية أيضاً! فما أن تمضي الفتاة إلى مغارة الرعب حيث تموت هناك قشعريرة وخوفاً كما يشاع، حتى تلبس المدينة ثياب الحداد ثلاثة أيام بلياليها ويتناول السكان الفطائر المسماة بـ – الفتاة المسكينة – وتثور في نفس الأب المفجوع عواطف النبل أيضاً فيقرر أن يسلم الروح حزناً على فراق ابنته، فالقعود والموت حزناً أبلغ تأثيراً وأكثر نبلاً، حسب أعراف أهل المدينة، من الخروج مثلاً لقتال التنين. كما أن المدينة تعبر عن عواطفها الإنسانية في ميدان آخر، فهي لا تنسي لتنينها الأثير أنه يحميها من غيره من الطواغيت التنينية (من تقاليد الاستعمار الغربي أن يشيع دوماً في نفوس أهل مستعمراته أن إنما يقوم بحمايتها من استعمار آخر) وأنه يخلصها من شعب لم تقع أنظار أحد من سكانها مرة عليه وهو الغجر، وأنه أخيراً خلصها من وباء الكوليرا. أمراً من طبيعة الأشياء لنتصور مدى ما يمكن أن تسف إليه النفس البشرية فرداً وجماعات عندما ينيخ عليها الظلم والطغيان. إن مجرد التفكير بمقاومة الظلم صار في عرف المدينة لا يستحق التفكير من الذين فكروا بالنهوض والتصدي للظلم فالحكيم من أعتبر بمصائر غيره وقنع بما يقسم له. وقد أراد شفارتس أن يقول إن هذا غاية ما يريد الظلم والاستعباد أن يربي عليه أي شعب يقع تحت سيطرته. لقد فقد أهل المدينة الإيمان فصاروا لذلك طيعي القياد يسار بهم أنى يراد، بل وسرى مرضهم إلى الأشياء، فصارت ((الأشياء في مدينتنا طيعة سهلة القياد تنفذ كل ما تؤمر به)).

لقد وصل التنين بأهل المدينة إلى أحط دركات الهلاك الفكري فغلف أفكارهم بصفحات من الظلام وأوصد أبوابهم على ألوان من البؤس والشقاء ومزق جميع تطلعاتهم إلى الأفضل فجردهم بذلك من كل ما هو إنساني وجعلهم ضرباً من الوحوش حتى إنه ليستغرب خروج لانتسليوت للدفاع عنهم وهم على ما عليه. إنه يقول له: (…أتباعي رهيبون مخيفون فليس لهم مثيل على وجه الأرض، إنه مسرح الأسطورة:

يدخل بنا إلى مؤلف المسرحية مدينة عادية لا تتميز عن بقية مدن العام إلا بشيء واحد فقط وهو كونها محكومة من قبل تنين. لكننا نصطدم بشيء من خيبة الأمل إذا ما توقعنا أن تنعكس هذه الظاهرة على نفوس أهل المدينة وعلى تصرفاتهم كأن تثير في قلوبهم الخوف أو الهلع. إن الأمر على العكس فجميع الأمور تجري ببساطة وهدوء والمدينة تقدم لتنينها جميع ما يلزم لإعالته وإطعام كرشه الغولي الذي لا يشبع، حتى أن مجموع ما تقدمه التي تزرعها من أجله خضاراً وخساً تكاد تحملنا على المعدي. وعلى هذا فالمدينة هادئة صامتة صمت القبور لا يشكو أحد من سكانها شيئاً ولا يحاول النظر حتى إلى الأسوار المحيطة بمدينته فكل شيء هادئ مطمئن مألوف.

ليس الظلم وحده هو الأمر الرهيب في الحياة بل إن الأشد فظاعة منه ورهبة هو الاعتياد والرضا به. وقد أراد الكاتب أن يشير إلى هذه الناحية بالذات إذ عرض لنا هذه الصورة الفريدة عن مدينته التي تجري فيها الأحداث، واكتفى أن يصور لنا قناعة أهل المدينة بوضعهم واعتبارهم له أنه من رباهم وجعلهم على هذه الشاكلة. لو سبرت أغوار نفوسهم بنظرك، أيه، لارتعت فرائصك… ولأسلمت قدميك للريح هرباً. ولأحجمت عن التضحية بنفسك في سبيل أمثالهم من المشوهين. لقد شوهتهم بنفسي يا عزيزي حسب الطلب. إن النفوس البشرية يا عزيزي شديدة الحساسية والحيوية.

فعندما تمزق الجسم البشري يغدو مشوهاً، لكن النفس البشرية تغدو أسلس قياداً وأكثر طواعية عندما تمزقها. كم هو مؤسف أن النفوس البشرية لا ترى، وإلا لرأيت بينها المهترئة والتجارية والمحترقة والميتة.. فيرد لانتسيلوت عليه بقوله: (أنت سعيد إذن؟!)

التنين: (وكيف!)

لانتسيلوت: (كيف! لو رأى الناس بأعينهم إلى ما صارت عليه نفوسهم لامتلأوا رعباً ولآثروا الخروج إلى قراع الموت على القعود والبقاء هكذا شعباً خانعاً طيعاً. فمن كان في هذه الحالة ليقوم بأودك؟)

لقد شاخت النفوس وغاضت فيها آخر رغبة إلى المغامرة، وآمن الناس بلا جدوى النضال. وقد أشار شفارتس إلى هذه الناحية في مكان آخر من مسرحيته إشارة سريعة لم تستغرق منه أكثر من سطرين لكنها ذات أهمية بالغة لطرافتها وذكائها. فالأدب الشعبي في جميع أساطيره اتخذ من عرائس الماء رموزاً للمطامح المغرية العزيزة المنال فأضفى عليهم جمالاً فتاناً وزودهن بصوت عذب وسحر فريد ومقدرة على الإغواء لا تقاوم فهن السيرينات اللاتي أغوين الكثيرين من البحارة قبل أن يغنوا لأوديسيوس – أوليس أثناء عودته إلى بلاده ولهن في الفلكلور العربي مكان مرموق حتى أن فصولاً من مغامرات سندباد – والتي تعد فريدة في أدب المغامرات العالمي – متصل بهن.

وقد طور جوركي أسطورة عرائس الماء هذه في حكايته المشهورة ((الراعي، والجنية الصغيرة)) وجعل بطله ماركو ينتحر في سبيل جنيته فلا يبقى منه غير أغنية يرددها البحارة. وهكذا جعلت هاته العرائس وسائل لإغراء الأبطال ليقذفوا بأنفسهم في أحضان المخاطر ويجيئوا بالمآثر كما ارتبطت أسماؤهن بهلاك الرجال بأشكال بطولية، وبموتهم دون أهدافهم الكبيرة العالمية البعيدة. أما في مدينة الرعب هذه حيث ماتت الأحاسيس البشرية فقد تجردت العرائس أيضاً من سحرهن وإغوائهن.

فأي خير يرتجى من مدينة تحولت عرائس الماء فيها إلى عاملات إنقاذ!! إنهن يجلسن ((في البحيرة التي غلاها التنين يوماً بنفخته فأمست حورياتها هادئات سالمات فلم يقلعن فقط عن اجتذاب أي إنسان إليهن وإغراقه بل ويجلسن في الأماكن الضحلة ويتاجرن بأطواق النجاة…)).

البطل:

من ذلك الركود المقيت ومن خلال الدياجير المتلبدة وعبر تلك السحب اللزجة الدكناء ينبثق سهم ماض ألاق البريق فيخترق صدر التنين فيجندله ويتلألأ صفاءً ونوراً ليشيع الصفاء والنور في كل نفس ويجوب كل الأمكنة لينشر فيها الشعاع والأمل والبسمات. إنه شاب عادي ثابت النظرات قدري الخطى يسير إلى هدفه ببساطة وعزيمة حتى إذا يلتقي بالبطل يصارحه بكل بساطة ووضوح بعزمه على قتله. إنه شاب عادي لا يتسم بشيء عن سواه من الناس بل إن المسرحي لا يختصه بأية ميزة خارقة ويكاد يقول لكل منا أن هذا البطل هو أنت وهو أنا وهو كل إنسان يقف مؤمناً ضد الظلم ويصمم على إزاحة ذلك الظلم. فبينما يقدم المسرحي لنا كل شيء عن التنين فنتعرف على طوله وعرضه وارتفاعه وطريقته في المسير ودرجة حدة جئيره زوعيقه ونتميز عدد رؤوسه وطول مخالبه وتسريحة شعره ونهجه في القتال ومناورة العدو نعرف منبته الرهيب وامتداد القرون التي قضاها منيخاً بشبحه على المدينة وعدد القتلى الذين هووا صرعى ضرباته التي لا تخطئ، لا نعثر على مجرد إنارة تقدم لنا ولو صورة قريبة للبطل القاهر بل إن كل ما نصل إليه هو أنه سليل أسرة عريقة بمناوأتها للظلم، وأن مهنته في الحياة هي قتال الطواغيت والعمالقة وأكلة لحوم البشر وأنه قد دخل الكهف المرهوب في الجبال السوداء حيث اطلع على سفر الشكاوى الذي يستقر هناك مسجلاً آهات المظلومين وجرائم الظالمين وأنه قد خرج بعد ذلك لقتال التنين لأن ((من يرى ذلك السفر مرة واحدة يهجره والراحة طيلة حياته..))

فما الذي جعل ذلك الإنسان العادي البسيط يحقق انتصاره؟

وهنا لا نعدو الحقيقة إذ نقول إن المسرحية كلها قد كتبت لتجيب على هذا السؤال ولنحقق غاية إنسانية كبيرة في نفس المؤلف لعلها أهم ما هدف إليه في مسرحيته ولعله السبب الذي يضفي جميع المعاني الإنسانية على المسرحية.

لقد قرأ لانتسيلوت جميع صفحات السفر الرهيب ورأى الآلام الفاجعة التي تنطوي عليها الصفحات فانطلق لمنزل التنين مسلحاً بسلاح أشد مضاءً من أي سلاح وهو إيمانه بعدالة قضيته، إيمانه بضرورة إنقاذ المدينة، هذا الإيمان الذي منحه ثقة مطلقة بنفسه وحمله على التصدي لعدوه القوي بكل شجاعة وإقدام. يضاف إلى ذلك حبه الصادق لتلك الفتاة البائسة العديمة النصير التي تمضى وحيدة بائسة إلى مصيرها الدامي وليس لها من ينصرها أو يحس نحوها حتى بالمشاركة غير أب عجوز حزم أمره على الموت من بعدها حزناً على فراقها، تلك الفتاة التي أودى بها يأسها وقنوطها النهائي من أي بريق من الخلاص إلى اختلاق فلسفة كاذبة لمصيرها حتى كاد يبدو لها جميلاً متميزاً بصفات ليست من حظ غيرها فالجميع سيدركون الشيخوخة أما هي فتموت في زهرة شبابها دون أن تدرك تلك الفترة المقيتة من العمر كما استطاعت أن تقنع نفسها بوهم خلاب وهو أنها تحمل صليبها –  لإنقاذ – شعبها، ((فلو لم أكن لاختار التنين واحدة من صديقاتي…))

لكن هذا ليس كل شيء بل إن هناك عاملاً أهم من كل هذه العوامل، وهو الذي حدد مأثرة البطل وصنع انتصاره، ألا وهو ثقة البطل بالشعب واعتماده عليه، فالبطل واثق من أصالة ذلك الشعب الذي ضربت أجيال الظلم والعبودية دون بسالته وطيبته سدوداً من المسكنة والمذلة والهوان. فالبطل يمضي ليلته السابقة للمعركة بين أولئك البسطاء الذين لم ينقلوا إليه القمل – كما يظن الحاكم الموالي للتنين – بل كانوا ((على العكس، غاية في النظافة والترتيب)). وقد أدرك البطل في تلك الليلة أن الشعب ينتظر المخلص الذي يقف صادقاً ثابتاً في وجه التنين وأنه أمضى عشرات السنين ومئاتها في ذلك الانتظار لكنه لم ييأس نهائياً لأنه ما أن رأى ذلك البطل تقياً حتى تشققت الأغلفة التي ضربت على النفوس وتمطت القيود على السواعد وزحفت الأشعة فأنارت تلك الكوى التي تنتظر النور مئات من السنين وصرت الأبواب الموصدة على النفوس، ومن تلك التي لم تعرف غير أحقاب الظلم والإذلال تتلو بعضها تمطت السواعد القوية الشجاعة وامتدت حاملة إلى بطلها وقائدها آلة النصر، وخرج إلى الساحة بضعة من أولئك المسنين الذين يقفون دوماً في الظل ودوماً ينسجون الحياة ويبدعون الوجود ويصنعون كل انتصار، وتقدموا من البطل فطرح بعضهم بساط الريح تحت قدميه وطوق آخر رأسه بقبعة الخفاء وتقدم خامس فقلده سيفاً ورمحاً ماضيين وجاءه الأخير بآلة موسيقية تعزف من تلقاء نفسها ثم تركوا له خرجاً مليئاً بالمآكل والمشارب وبالخيوط والإبر، وقال قائلهم وقد تهللت أساريره غبطة وسعادة لظهور البطل المنتظر: (طالما تقرى أجدادنا الطرقات بانتظارك. لقد طال انتظارهم لمجيئك وها نحن نجني ثمار الانتظار).

وقال آخر: (لقد سمعنا، سمعنا خطاك وأنت تطوف المدينة وحيداً لا نصير لك، فسارعنا، سارعنا إلى تسليحك من رأسك حتى قدميك. لقد انتظرناك، انتظرناك مئات السنين الطوال، لقد جعلنا التنين خانعين أذلاء، لكننا كنا ننتظر ونترقب، وها قد تم انتظارنا، فاقتل التنين وحررنا من أغلالنا..)

لا! لم تشوه النفوس البشرية إلى الدرجة التي أرادها التنين! ولم يتحول الناس قطيعاً من الحيوانات. لا! إن جذوة الحياة لم تنطفئ فالحياة لا تموت، والحياة دوماً طموح إلى الأمام ولا بد من أن ينجلي الليل وتتكسر القيود. والشعب لا يزال محتفظاً بأصالته وصميميته. لكي تتفجر هذه الأصالة والصميمية لا بد من إيمان القائد. لقد آمن البطل بهذه الحقيقة، آمن بشعبه، الشعب دوماً هو صانع الانتصارات وآمن الشعب به فكانت المعجزة.

الشعب دوماً هو صانع الانتصارات وهو محرك التاريخ ومحوره وقد ألحت الأساطير الشعبية لدى جميع الشعوب على هذه الحقيقة وأدبنا الشعبي العربي زاخر بها. فالقبيلة العربية لم تدفع بفارسها يوماً إلى النزال دون أن تزوده بتميمة لا يخيب سحرها وهي إيمان القبيلة بذلك البطل وثقتها وأملها بانتصاره فكانت القبيلة دوماً هي الملهم وهي النصير حتى لتنعدم الحدود بين الفارس كإنسان مستقل وبين كونه قطعة ملتحمة بالقبيلة. فما عنترة إلا فارس نصرته قبيلة وعكست جميع أمانيها به في عيني حبيبته عبلة بنت عبس. وما انتصارات أبي زيد الهلالي – مثال الفروسية والحكمة والدهاء العربي – وغيره من فرسان الهلاليين إلا نتيجة منطقية لوقفة تلك الصفوف التي كانت تقف وراءه ثابتة متأهبة لنصرته يختلط فيها هتاف الرجال بزلاغيظ النساء.

لقد أدرك التنين مقدار القوة النفسية التي تزود بها خصمه البطل فارتجفت – لأول مرة أوصاله، ولاحت أمامه بوادر النهاية فلجأ إلى ما تلجأ إليه قوى الظلم والغدر دوماً في مثل هذه الظروف، وهو الطعن من الخلف فأعطى لأيلزا خنجراً ومناها بالوعود إن هي قتلت مخلصها، ولما فشلت خطته كان لابد له من النزال وكان لنا أن نرى أن الظلم مهما بلغت صولته واشتد طغيانه فإن هناك دوماً ما هو أبلغ منه وأشد وأقوى وأن التحام أهداف البطل ورغائب الشعب دوماً يحقق المعجزات ويجيز المستحيل.

ويقتل التنين فنتنفس الصعداء إذ أزيح الكابوس الثقيل عن صدر المدينة ومن حقنا بعد هذا أن نستنشق معها أنسام الحرية ومن حق الشعب الذي انتصر أن يستلم دفة الحكم ويسير أموره بنفسه، لكن الخاتمة التي ينتهي إليها شفارتس أبعد ما تكون عن هذه النهاية التي تعتبر بالنسبة لمنطق كثير من الأحداث التاريخية ساذجة لا معقولة! فلفت المسرحي انتباهنا إلى ما يجري حقيقة في الحياة لا إلى ما تتمنى عواطفنا أن تراه في الفن. فقد هوى التنين وهوى البطل إلى جواره يردد أنفاساً أخيرة تختلط فيها الحياة بلهاث الاحتضار. وإذ ذاك ينهض الحاكم – الذي كان اليد المحركة لكل مظالم التنين وملهمه في كل جرائمه – فيعلن أنه قاتل التنين وينصب نفسه – تنيناً – بديلاً عنه ويكشر عن أنياب أشد مضاءً من مخالب التنين وأسرع منها نفاذاً فتعود عجلة الظلم إلى دورانها وتفتح السجون على مصاريعها ويطرح في الغياهب السوداء أولئك الذين صاغوا الانتصار وتفرد زنزانة خاصة لكل من حائك البسط الطائر وصانع قبعة الخفاء ومبدع الآلة الموسيقية. أما الفتاة التي كانت ستمضي إلى التنين فترسم زوجة للمخلص الدجال ومن جديد يطبق الظلام على المدينة أشد ثقلاً وفتكاً.

وكان لابد وأن يعود البطل ثانية للاقتصاص.

هناك كثير جداً من الأحداث التاريخية التي تشير إلى أن من يصنع الانتصار ليس هو دوماً من يجني ثمار ذلك الانتصار. فالثورة الفرنسية قامت على أرواح الفلاحين وصغار العمال وكان جناها من نصيب الطبقة البرجوازية التي أبدلت أولئك المظلومين ظلماً واستغلالاً أين منه ظلم واستغلال أسيادهم الإقطاعيين السابقين. وتاريخنا الحديث مثال حي على هذه الحقيقة فبينما كان الإقطاع والرجعيون في بلادنا يسيرون في ركاب المستعمر الفرنسي ويساعدونه على جرائمه كان المناضلون من أبناء شعبنا الكادح يتهاوون صرعى ليرووا الأرض بدمائهم ثمنا لحرية الوطن. وكان الاستقلال: فإذا بعملاء المستعمر السابقين يلبسون حلل الوطنية ويبرز كثير منهم على مسارح الحكم وتنهال سياطهم من جديد على صانعي الاستقلال…

وكان لابد من ثورة مباركة جديدة.

تتفرد مسرحية – التنين – بظاهرة هامة وهي شمولها الحياتي فقد استطاع مؤلفها أن يتناول فيها قطاعاً متسعاً من عالم الحياة الكبير وسرح فيه عدداً غفيراً من الشخصيات المتنافرة الألوان المختلفة المذاهب المتعددة الأشكال واختص كلاً منها بعالم كامل يعد جزءاً لا ينفصم من ذلك العالم العريض المتكامل الذي تدور أحداثه أمامنا ونحن نشهد المسرحية. ولذلك فإن أية شخصية لا تقل أهمية عن شخصية البطل ويطول بنا البحث إذا ما أردنا إعطاء كل من هذه الشخصيات حقها في الدراسة (لا يمكننا تجاوز شخصيتي الحمار والقط في بحثنا هذا. فالأول يمثل الصبر والدأب والجلد وهو الركيزة المنسية السفلى التي يقوم عليها كل بناء اجتماعي. إنه يأكل الشوك ولم يعرف طعم اللحم في حياته حتى يعتقد أنه لا يستعمل إلا أحمالاً تنقل. أما كلماته (ليس اللعق من شيمتي! ليس الرجوع من شيمتي!) فأبلغ من أي شرح. أما القط فمثال لذلك – المناضل – المستعد لخوض جميع أنواع النضال شرط ألا يضيره ذلك شيئاً! إنه يساعد لانسيلوت مادام التنين غائباً وينقل أخباره إلى الجمهور لكنه لا يجرؤ على الخروج إلى ساح القتال حتى للفرجة فهو يخشى أن يصيبه شظية فتتلف وبره الناعم الرقيق.). وإذا كان عدد الشخصيات قد ساعد المؤلف على بسط سلطانه على ذلك القطاع الحياتي العريض فقد ساعده على ذلك أمر آخر وهو الحوار الذكي العميق الذي يدور بين هذه الشخصيات حتى إن عبارة واحدة من عباراته تعكس في كثير من الأحيان قضية كاملة تستوقفنا بطرافتها وأصالتها:

أثناء اللقاء الثاني يعترف لانتسيلوت لأيلزا بحبه لها، وتضطرب الفتاة فالتربية الناقصة المشوهة للمرأة تجعلها دوماً تجهل حتى ماهية عاطفتها فتقول: (إنك لا تعلم كم هي العواطف لدينا غامضة ومضطربة نحن جنس الفتيات الذليلات أبداً والمهانات. بالأمس كان يبدو لي إنني أكرهك.. وبالرغم من ذلك فقد خرجت من غرفتي أثناء الليل وهبطت إلى حيث كنا سوية جالسين فشربت فضالة الخمرة التي أبقيتها في كأسك..)

إلى جانب هذه اللوحة السريعة الجميلة لفتاة يلمس الحب – لأول مرة – قلبها، وإلى جانب تلك اللوحة الرائعة لذلك البطل القوي الواثق من خطاه والماضي بثبات إلى هدفه نلتقي بلوحات كثيرة بعثرها المؤلف في المسرحية لتجمع كل منها عاطفة مختلفة أو تصور، نفسية معينة فأثناء التحام البطل والتنين في المعركة وخروج المدينة للفرجة تترد كلمات عميقة المضمون. فعندما تشير إحدى المتفرجات إلى ارتفاع سعر الحليب بعد مضي دقيقتين فقط على المعركة يرد جارها يقوله: (لقد رأيت في طريقي إلى هنا منظراً تقشعر له الأبدان. فقد كان السكر والزبدة يجريان من المخازن إلى الأقبية وقد علتهما صفرة الأموات: ما أضعف أعصاب هذه المواد الغذائية. إنها ما إن تستشم رائحة الحرب حتى تتوارى عن الأنظار..) وإذا كانت بعض المواد قد توارت إلى الأقبية بسبب الحرب فإن مواداً أخرى قد أبرزتها الحرب نفسها فبائع الأدوات الزجاجية مثلاً يعرف أين ومتى وبأي سعر يعرض مراياه الزجاجية في وقت أرغمت فيه حكومة هيزغ جميع المواطنين على النظر إلى الأسفل لكي لا يشهدوا في السماء مصرع التنين. أما السيدة التي تململت بعد مضي ست دقائق بكاملها دون أن تسفر الحرب عن نتيجة فقد فسرت امتعاض صديقات أيلزا اللاتي ساءهن ذلك الغريب المتطفل الذي أفسد عليهن هدوءهن والذي لولاه ((لكان التنين قد أخذ أيلزا ولكنا (أي الصديقات) منذ زمن جالسات الآن بهدوء في بيوتنا نذرف الدموع..))

ولما يهوي الرأس الثاني للتنين تتمطى عزة النفس في أعماق أحد المواطنين فيصرخ: (لقد ضاع ثلثا احترامي للتنين..) ثم يستيقظ هذه العزة كاملة عند سقوط الرؤوس الثلاثة فيبخل على التنين المحتضر بشربة من الماء. ويتردد نزع التنين وهو يستجدي قطرة واحدة من الماء فيشيح عنه أقرب أتباعه وإذ ذاك يصعد مونولوجاً حزيناً يصور بدقة نفسيات أولئك المقربين إذ يقول: (…أي. أما من مجيب. أنت ياميللر، يا من كنت تقبل ذنبي كلما التقينا. أنت يافريدريكسين، يا من أهديتني غليوناً مثلث الشعب بعد أن حفرت عليه (المخلص إلى الأبد) إيه، أنت يا آنا – ماريا – فريدريكا – ميبر، يا من كنت تلهجين بحبي وتحملين قلامات مخالبي بين نهديك في تميمة مخملية… لقد اعتدنا على التفاهم منذ غابر العصور. أين أنتم الآن جميعاً؟ ائتوني بماء، جرعة واحدة – واحدة فقط… قطرة واحدة..)

إن هذا يفسر لنا أيضاً من هم هؤلاء القوم وكيف انقلبوا من ساعتهم موالين للحاكم الجديد – لاعن التنين – وكيف صاروا يتملقونه بنفس العبارات ويتقربون إليه بنفس الهدايا.

وبعد: فإنه لمما يثير الفرحة والتفاؤل أن يقدم مسرحنا القومي هذه المسرحية فهي واحد من أفضل ما قدمه المسرح السوفييتي خلال عهده الحديث وقطعة أدبية فريدة في تاريخ الأدب العالمي الطويل.

عماد حاتم.