الإيقاع التراجيدي في مسرح لوركا

تقديم أسعد فضة

فيد ريمو جارتيا لوركا هو شاعر اسبانيا الأول في القرن العشرين ربيب الجمال وأبن الأرض الاندلسية التي احتضنته بين ذراعيها بنحو أذكى في نفسه لكل نبتة تتغذى من هذه الأرض وغدير يجري في ربوعها وضوء ينير خديها، ونسمة تداعب خمائلها فحفظ تراثها الشعبي الدال على شخصيتها الحقيقة بشعره العذب وجمعه للألحان الشعبية وخلقه لها أحيانا لأنه كان على دراية واسعة بالموسيقى إلى جانب التصوير والشعر.

وحبه لبلاده جعله يهتم كثيرا بالألحان الشعبية الأندلسية وينظم الأشعار التي كانت تتردد على كل لسان بالحان من خلقه وابداعه لم يسمع أحد بها من قبل ولا أريد ان اطيل التعريف بهذا الشاعر العظيم وعبقريته الفريدة ولا التحدث عن روعة عالمه الشعري الساحر بل سأكتفي بحديثي أن أقطف زهرة واحدة من روضه الفنان.

وسيكون حديثنا هذا عن مسرح لوركا أو بالتحديد عن الايقاع التراجيدي في مسرح لوركا وعند عبارة الايقاع التراجيدي اجدني مضطراً إلى الوقوف لحظة عند مقتل شاعرنا العظيم لان في ذلك قمة التراجيديا.

ففي عام 1936 اندلعت الحرب الأهلية في اسبانيا واشتد الخلاف بين الملكيين الكاثوليك والجمهوريين الثوريين وطبعاً كان لوركا الشاعر الذي تغنى كثيراً بالحرية والعدل والمساواة من صف الجمهوريين الثوريين، وعندما استلم الملكيون الحكم لم يسقطوا من حسابهم لوركا وعم يعرفون تمام المعرفة مقدار تأثيره على الناس بشعره المتحرري التقدمي.

وفي التاسع عشر من شهر آب وقعت الجريمة في غرناطة وقتل لوركا على يد فرقة الكتائب الرهيبة التي الفها الملكيون لاثارة الرعب في الناس.

وسكتت القيثارة التي غنت أشجى الألحان وأعذبها في الوقت الذي يجب ان تغنى سكتت مع الصباح مع شدو العصافير والندى والنسيم.

وقد صور انطونيو ماخادو أستاذ لوركا وصديقه مقتله بهذا الأبيات لقد رأوه وهو يسير بين البنادق فوق الشارع الطويل

ويلوح فوق الجرد البارد

المشعشع بالنجوم جود الصباح وقد قتلوا فيديريكو

في الساعة التي يطل فيها الضوء ولم تكن مفرزة الجلادين

لتجرؤ على أن تتطلع اليه وجهاً لوجه لقد أغمضوا أعينهم

وصلوا: أن الرب نفسه ان ينقذك لقد سقط فيديريكو صريعاً

على جبينه الدم وفي احشائه الرصاص

لقد وقعت جريمة في غرناطة

هل تعلمون؟ مسكينة غرناطة، غرناطة

وهكذا عانق لوركا الأرض التي يحبها عناقا أبديا ودفن حيث أوصى قبل موته

عندما أموت

أدفنوني مع قيثارتي

تحت الرمال

عندما أموت

بين البرتقال والنعنع

أدفنوني إذا شئتم

في مهب الريح

عندما أموت

لم يشتهر لوركا كشاعر فقط، بل أشتهر ككاتب مسرحي أصيل عبر عن النفس الإسبانية بكل حرارتها وعنفها وصخبها فجاءت مسرحيته مرتبطة بالأرض الاسبانية ارتباطا وثيقا وأصيلا فقدم لنا مسرحيته الخالدة: بيت برناردا انبا ومسرحية يرما. وعروس الدم ولفة الأزهار.

وبيت برناردا البا من أشهر مسرحياته وأقواها والذي يميزها هو تخلي لوركا عن القوالب الشعرية والغنائية التي كان يضعها في مسرحياته الأخرى حتى لنحسب أن المسرحية ما هي إلا قالب يصيب فيه لوركا نبعه الشعري الغزير.

وبيت برناردا البا هذا أو بيت الحسرات يضم ست نساء ليس بينهن رجل واحد.

وهو من البيوت العريقة تبدأ المسرحية والبيت في حالة حداد على رب الأسرة الذي أدركته يد المنون والنسوة هم برناردوا البا الأم – 60 – سنة وبناتها أنجو ستايس – 39 – سنة ماجدلينا – 30 – سنة اميليا – 27- سنة مارتيريو – 24 – سنة اديلا – 20 – سنة وأم برناردوا ألبا وقد بلغت الثمانين ثم الخادمة ومدة الحداد التي فرضتها الأم برناردوا هي ثماني سنوات ورغم التقيد الصارم المفروض من قبل الأم على بناتها أضيف إليه قيد الحداد لمدة ثماني سنوات فماذا يصنع مثل هذا القيد بالعاطفة المرتكز الذي ينهي عليه لوركا شخصياته ماذا يصيب العاطفة الإنسانية التي تحرك النفس البشرية في مثل هذا الجو .

وهكذا وضع لوركا هذه العواطف الإنسانية المصطرعة في اتون وأضرم فيه النار فكانت مسرحيته الخالدة هذه. فهناك الشخصية المحورية في المسرحية التي تحرك البنات الخمس وهي لا تتحرك بل لا تظهر على المسرح إطلاقا وهي شخصية الشاب بيبي الرومانو 25 سنة فرغم قوة وسلطة الأم برناردوا البا والقيود التي يقيد بها بناتها استطاع بيبي ارومانو أن يعيش في خيال كل واحدة منهن ويسطو على أنجو ستايس ويضاجع اديلا في الحظيرة فالأم في المسرحية هي الفعل الذي تقع وطأته على البنات الخمس فهي التقاليد والعادات والعرف والمحافظة العقلية الجامدة والبنات هن رد الفعل الذي يصنع المأساة ويخلق فيها ذلك الإيقاع التراجيدي العجيب.

أما أم برناردوا ألبا مارياخو سيفا فما هي إلا الصورة المخبئة في نفسية كل فتاة من بنات برناردوا والتعبير الصادق عن عواء الغريزة الكامن في نفوسهن، فهي تحلم دائما بأن تتزوج فتى جميلا خارجا من ساحل البحر وبما أنها لا تستطيع الوصول إلى هذا الشاب فهي تكتفي بمرافقة شاة صغيرة تسقط عليها حلمها الذي لا يمكن أن يتحقق.

فهي تقول لمارتيريو عندما تسخر منها على سلوكها هذا: خير لك أن يكون لك شاة من ألا يكون لك شيء ما.

ومسرحية بيت برناردوا ألبا واقعية وصادقة في واقعيتها, فشخصية الخادمة لابونيثا ما هي إلا لسان البيئة الذي يحلو له أن يلوك الإشاعات والأكاذيب وينشرها هنا وهناك , نعود إلى أحداث الرواية , يبتدئ لسان العواطف المكبوتة بالتحرك فتثور اديلا الصغرى بنات برناردا وتعلن للجميع أن جسدها هو ملكها وستفعل به ما تشاء, فعندما يأتي بيبي الرومانو خطيب أختها أنجو ستياس تهبه اديلا جسدها وسرعان ما يفتضح أمرها فتسرع الأم لتقتل الشاب بيبي الرومانو ويصور حقد العاطفة لأختها مارتيرو أن تقل إليها أن عشيقها بيبي الرومانو قد مات فما يكون من اديلا إلا أن تسرع إلى غرفتها وتشنق نفسها وترجع الأم لترى هذا المشهد, ولا يؤثر فيها مقتل ابنتها أكثر ما يؤثر فيها انتشار الفضيحة والتأثير على سمعتها في تردد بجنون : احملوها إلى غرفتها العذارى – ولا يقولن أحد منكم شيئا – ابنتي ماتت عذراء . وابلغوا النبأ حتى تدق أجراس الكنيسة في الفجر – معلنة أن فتاة بكراء اختارها الله إلى جواره – إن ابنة برناردا ألبا الصغرى قد ماتت عذراء. عذراء اسمعتن (وتنتهي المسرحية بهذا الإيقاع التراجيدي الحزين الذي يصل بقوته إلى مستوى التراجيديا اليونانية) من الملاحظ (أن دور لوركا قد اقتصر في مسرحيته هذه على الشخصية النسائية) وابعد الرجل ووضعه خارج المسرحية – بالرغم إنه المحور الأساسي الذي يحرك الحوادث وهذا يثير التساؤل.

لماذا لم يشارك لوركا الرجل في حوادث مسرحيته ويظهر على المسرح؟

لو نظرنا إلى برنارد ألبا وبناتها لوجدنا شخصيات واقعية مفرقة في واقعيتهن وفرديتهن. وهذا ما تؤكده أحداث المسرحية. أما الشاب بيبي لرومانو فهو الرمز الذي أراد لوركا أن يرمز به لعالم الرجال – للنور – الذي ينتشر ضوئه خارج البيت – وتشخص إليه أعين بنات برنارد – وقد أكد لوركا قيمة هذا الرمز بوضعه الحصان في البيت – بضجيجه وصهيله وقرعه أرض الأسطبل بحوافره من وقت لآخر – ولقاء هذه الضجة مع صدى العواطف المكبوتة عند البنات برناردا – وقد ربط لوركا برمزية جميلة بين الحصان الذي يدل على الغريزة الحيوانية – الكامنة في النفس البشرية وبين بيبي الرومانو – إذ كل منهما يذهب طليقا من قيوده فبرناردا تأمر بفك قيود الحصان وتركه طليقا – وهذا ما يحصل للشاب بيبي الرومانو – فهو ينطلق بين الحقول – ينشد الأناشيد الإسبانية دون أن يقيم وزنا للمأساة التي خلفها في بيت برناردا ألبا .

وهكذا جاءت مسرحية برناردا ألبا بالرغم من واقعيتها تجسيد حي لعواطف ونزعات أبت أن تكون رهينة الحبس – وتخضع للقوانين المحددة – فاصطدمت هذه العواطف الجامحة – التي تريد الإنطلاق خارج سياج الواقع – بحدود الواقع – فكانت النهاية السيئة والموت – الموت – الذي يهمس به لوركا في كل أعماله وكأنه إحدى مقومات الحياة -.

أما في مسرحية يرما – فهو يصور لنا مأساة يرما – هذه الإنسانية التي تثير الشفقة والحنان في كل نفس – الإنسانة التي طلبت الأولاد من زوجها ولكنه لم يستطع أن يمنحها ما تريد وبدت غريزة الأمومة تتمرد داخلها وتطالبها بإنجاب الأطفال – ولكن لا حيلة لهال في ذلك – -وتزداد ثورة العطفة شدة وعنفا حتى يصل الأمر بيرما لأن تقتل زوجها.

ولوركا هنا يعطينا – القيمة المعنوية للإخصاب – وقد أوضح هذه القيمة وضع لوركا الشرف كطرف آخر للموضوع – فتمسك يرما بالشرف هو الذي أذكى الحوادث وساعد في تطورها.

فيرما تريد الأطفال – وزوجها لا يستطيع إخصابها لكنها لا تفكر أبدا بخيانته فهي تقول: من أجل ابني كنت أسلم نفسي لزوجي وأنا أستمر في ذلك لأرى إذا كان سيجيء ولا افعل ذلك أبدا من أجل لذتي. وتجمح بها العاطفة وتصو لها أن تنام مع شخص آخر لتنجب. لكن الشرف يقف أمام عينيها كامارد الجبار.

فهي تقول للوثنية العجوز التي تعرض عليها الخيانة:

يرما: وأين تضعين شرفي؟ ليس في مقدور اناء أن يصعد في الجبل، ولا بوسع البدر أن يطلع في وسط النهار. – أذهبي – إن الطريق الذي سلكته – سأتابع فيه السير حتى النهاية -.

كما تصرخ في وجه زوجها عندا يتهمها بالخيانة بقولها: (تظن بأنك وأهلك بأنكم الوحيدون الذين يحافظون على الشرف ولا تعلمون أن قومي لم يكن لديهم شيء يخفونه ضعني في ميدان وابصق علي. افعل بي ما يحلو لك فأنا زوجتك. ولكن حذاري أن تلصق بصدري أسم رجل آخر.)

وتتمسك يرما بالشرف رغم حبها للأطفال ورغم عدم قدرة زوجها على اخصابها فهي تشكو لجارتها هذا الفراغ الذي تشعر به يملأ عليها حياتها.

(وكيف لا اشكو حينما أراك أنت والنساء الأخريات محملة بالأزاهير يبنما أظل انا دون نفع بين كل هذه الجمالا)

إن المرأة التي لا أولاد لها في الريف هي دون نفع ككافة الأشواك إنني أشعر بنفسي مهانة، مهانة ومنحدرة إلى درك أسفل من الأرض عندما أرى القمح ينبت والينابيع لا تكف عن بذل الماء والمواشي تضع مئات الحملان، إن كل الريف يدلني واقفا على موالده وعلى صغاره الطريئة العود المهمومة بالرقاد، بينما أحس بضربات مطارق في الموضع الذي يجب أن تقرصني فيه شفتا طفلي.

عرس الدم

بقلم اسكندر لوقا

في تقديري، أن مجرد انتقاء هذه المسرحية وتقديمها على خشبة المسرح ظاهرة جريئة تستحق الثناء. إن التعامل مع لوركا ليس عملا هينا، ومع هذا فقد تمك الفنان أسعد فضة من تجسيد أفكار المؤلف تجسيدا موفقا في إطار من الممثلين الذين لم تكتمل لديهم بعد أسباب التصدي لتمثل هذه المسرحية في ضوء خبراتهم السابقة.

ولا تعني في هذه الملاحظة، في أي حال من الأحوال انتقاصا من قدر أحد من هؤلاء الممثلين الذين طالما تحدثت عن نجاحاتهم غير أن الامر، كان يقتضي التريث بعض الوقت، حتى يعطي عطاؤهم، مجتمعين، العطاء الذي تتطلبه مسرحية كمسرحية (عرس الدم) التي تصور حقا وكما ذكر المخرج المسرحية نفسه صراع الإنسان مع نفسه، وصراعه مع التقاليد، وصراعه مع الحياة والخنجر الذي لا يضل طريقه إلى الصدور.

وربما أوضحت السطور المقبلة ما أعنيه بالضبط.

المسرحية، تدور حول خلاف عميق الجذور بين أفراد اسرتين رائحة الدم تفوح من الحوار أول ما يستقبل المتفرج المشهد الافتتاحي. ثمة قتيل وقاتل ولابد من أخذ الثأر. وفي ايطار هذا الموقف قصة حب لم تكتمل. الحب الذي كان يربط يوما ما بين ليونارد (أسعد فضة) وبين الخطيبة (مها صالح). ولكن الحب يطعن من الخلف بسبب ما ويتزوج ليونارد من امرأة أخرى (هيلدا زخم). أما الخطيبة فإنها تزف إلى رجل آخر يهيم بها (سليم صبري). وفي ليلة الزفاف، وبعد العودة من الكنيسة، يبعث الماضي كله من جديد. ومن جديد تفوح رائحة الدم. تهرب العروس مع ليونارد الذي يخلف وراءه زوجة وطفلا وقبل أن يمتلك فتاته يقتتل مع الزوج البائس فطعن كل منهما الآخر. ويختنق صوتهما في بطن الوادي حتى الأبد. وعندئذ ترثي الأم (ثناء دبسي) ولديها الأول الذي قتل فيما مضى والثاني الذي قتل ليلة العرس الأولى. وتصطبغ حياة الجميع. مرة أخرى. وبمزيد من الحدة باللون الأحمر. لون الدم.

وضمن هذا الإطار الواسع للقصة، تفاصيل لا قيمة لها. الأدوار الرئيسية إذا محدودة. الأم. الخطيب. الخطيبة. ليونارد. تم تأتي الأدوار المساعدة: امرأة ليونارد. القمر. الموت. (وقد جيء بهما ليرمزا إلى الجريمة قبل وقوعها ليوضحا بعض جوانب الحدث المرتقب).

ومن بعد ذلك تأتي بقية الأدوار الجارة. حماة ليونارد. الفتاة الأولى والفتاة الثانية. الخادمة. والد العروس. الحطابون الثلاثة.

وقد كان لزاما على مخرج المسرحية أن يسند الادوار الرئيسية الأخرى المساعدة إلى ممثلين قادرين. ولم يخب رجاء المتفرج بالأم التي تركزت حولها حواس الجمهور باعتبارها العنصر المحرك للمأساة، وأعطت (ثناء الدبسي) من نفسها ما يتطلبه دورها من مظاهر الثبات على المبدأ، واحتضان فكرة الحقد والمناداة بشعائر الثأر، كأية ممثلة عريقة. وكما كانت (ثناء) رائعة في مسرحية (هواية الحيوانات الزجاجية) كذلك جاء دورها رائعا في مسرحية (عرس الدم).. بل أروع.

أما الآخرون الذين تقاسموا معها الأدوار الرئيسية، فقد قصروا إلى حد ملحوظ في ملء أبعاد أدوارهم، باستثناء المشهد الذي ضم ليونارد والعروس قبل أن يضع الخنجر حدا فاصلا للموقف ويقول كلمته الأخيرة في قصة الثأر الماضي. هذا المشهد الدافئ، إلى جانب مشهد الخطيبة والخادمة إثر طلب يد الأولى، جعل (مها صالح) تحتل المكانة الثانية في هذه المسرحية في حين تخلف عنها الآخران: ليونارد والخطيب.

والفرق هنا، كما أوضح دائما ليس في اتقان الحركة أو اللغة وإنما في التقمص الذي يجعل المتفرج أنه، حقا، أمام مشهد لا تمثيل فيه. ربما كان أسلوب (أسعد فضة) في الإلقاء عامل إنقاص من قيمته كفنان أصيل وربما كان السبب نفسه بالنسبة إلى زميله (سليم صبري). غير أن الذي لا شك فيه مطلقا، هو أننا مع هذين الفنانين لم نكن جزءا من القضية يل وقفنا على هامشها …

وإذا انتقلنا إلى الأدوار المساعدة الثلاثة في المسرحية: امرأة ليونارد. القمر (يوسف حنا). الموت (أحمد عداس) لوجدنا أمامنا عطاء ذاخر بالحياة جسده لنا (أحمد عداس) فهو على قصر دوره نقلنا إلى صميم الدور، وليس الأمر بمستغرب فأحمد عداس واحد من كبار ممثلينا، وقد أحسن اختياره لهذا الدور الدقيق الذي يتطلب إشاعة الجو النفسي المطلوب الممهد لوقوع الجريمة من جهة وتقبلها من جهة أخرى. ورديفه في هه المهمة (يوسف حنا) لم يكن أقل منه إجادة في العطاء كان يفتقر إلى الحياة التي اصطبغ بها دور (الموت).

وما بقي من الأدوار لا يستدعي التوقف عندها طويلا. ليس لعدم جدواها في إنضاج الفكرة، وإنما أيضا لألوانها افنية الباهتة. وإن كنت استثني والد العروس (محمد خير حلواني) والخادمة (هالة شوكت) فلأنهما لعبا دورهما بإخلاص، وان يكن الشطط الذي تبدى في دور والد العروس مسيئا بعض الشيء، ولا أدري إذا كانت السخرية هنا من متطلبات الموقف الذي رسمه دور والد العروس أم لا. وما عدا ذلك كان يمكن الاستغناء عنه: الفتاة الأولى والفتاة الثانية، الحطابون الثلاثة. حماة ليونارد باستثناء الجارة (بهاء سمعان). أقول ذلك لسببين أولهما الفشل الذي حققته كل من (فايزة شاويش) و (نهلة سباهي) و (اسكندر عزيز). والثاني لإمكانية إبعاد الألغاز عن جو المسرحية التي قدمت شعرا وكان بالمستطاع التدخل لإيضاح المعاني المطلوبة بأسلوب نثري.

شيء آخر قبل أن نطوي هذه العجالة إلى لقاء جديد مع (العنب الحامض) لابد من الإشارة إليه والإشادة به هو الديكور الذي أضفاه (خزيمة علواني) على أحداث المسرحية الأمر الذي جعلها تدور في مكان أوسع وأرحب مما هو عليه جانب اشاعته الجو المطلوب حولها، كذلك بالضبط الحركات والإيقاعات التي تتطلبها تلك الأحداث، وقد كان هذا الجانب من جوانب مسرحية (عرس الدم) يشهد لمخرجها بكفاءته الممتازة.

عرس الدم

على مسرح القباني

قدم المسرح القومي في دمشق عبر موسمه الحالي المسرحية الشعرية (عرس الدم) لشاعر اسبانيا فردريكا غارسيا لوركا. اخرجها للمسرح السوري أسعد فضة…

دمشق – من نزار مؤيد العظم.

خلال الأسابيع الأخيرة الخمسة، قدم المسرح القومي بدمشق عير موسمه الحالي مسرحية (عرس الدم)، رائعة شاعر اسبانيا غارسيا لوركا التي تحمل في الأصل الإسباني اسم (الزفاف الدامي) فضربت في نجاحها رقما قياسيا، لم يشهد له تاريخ هذا المسرح مثيلا، طيلة السنوات الست، وكان هذا النجاح برهانا جديدا يجابه المتشككين بجدوى مسرحنا وامكاناته، ويجعلهم يؤمنون بصدق. أن هذا المسرح قد شب عن الطوق، وقطع خطوات طموحه رحبة للوصول إلى مصاف المسارح الكبيرة العالمية التي تتصدى لموضوعات مجهدة صعبة كموضوع عرس الدم.

لا أزعم أن موضوعا كالزفاف الدموي، ولشاعر كبير كلوركا عمل سهل التنفيذ، داني القطوف، بل أكاد اجزم، أن اختيار الفنان أسعد فضة لهذه المسرحية بالذات يعتبر تحديا جريئا، وتجاوزا واعيا مسؤولا لكل العقبات والمصاعب التي ما برحت تجابه نمو المسرح السوري، وتكبل اندفاعه. وللحق، أن أسعد فضة مخرج المسرحية، ومعظم العناصر التمثيلية والفنية التي ساهمت بتنفيذ هذه المسرحية القصيدة، قد استحقوا بجدارة التقدير والإعجاب، والتصفيق الحاد، خلال الأسابيع الخمسة التي شهدت عرض المسرحية بإقبال منقطع النظير، لإحرازهم هذا النصر الذي استطاع أن يجسد لنا قيما فنية رفيعة، على مسرح صغير في دمشق هو مسرح القباني، الذي يتضاءل كثيرا دون تطلعاتنا المسرحية، والذي أنشأ في الأصل ليكون مسرحا للعرائس.

مسرحية عرس الدم، تبرز لنا الصراع بشتى صوره وأبعاده.. فهناك صراع الإنسان مع نفسه، وصراعه مع التقاليد، وصراعه مع الحياة، والموت، والخنجر الذي لا يخطئ مطعنه، الصراع من اجل الأرض ومعها، تلك التي تتطلب من يجند نفسه لقهر أشواكها وعوامل الجفاف والقحط فيها … ولإخصابها واستنباتها، والصراع بين الحقد والمحبة، بين الخير والشر، بين الجمال والقبح.. كل ذلك في قالب مأساوي من الفه إلى يائه، محلي في معطياته، أصيل في عناصره وعواطفه وانفعالاته.. مشرق في حواره وأفكاره … مما هو غير مستغرب من لوركا، الشعر الذي خالف جمهور شعراء اسبانيا، في مطلع القرن العشرين، اولئك الذين كفرو بماضي أمتهم وتراثها، واندفعوا لمارات التيارات الأوربية، فيما أصر لوركا على التشبث بإسبانية انتاجه، والتنقيب في ماضي شعبه، والغوص في محيط قوالبه وثرواته الفنية الشعبية ومعطيات الحياة والأرض والبيئة الإسبانية. فاذا نحن نقرأ له أو نستمع، ونرى أبطاله، نتواجد مع عواطفهم وانفعالاتهم، ونتذوق حلاوة الصدق في المعاناة، ونشم رائحة التربة الإسبانية، وأريج رياحينها، وعبق صباياها، ونحس دفق الحرارة في قلوب ابنائها وموسيقاهم ورقصاتهم وآلامهم وأفراحهم، كما تصدم انوفنا انتان الحقد والدم والموت، وتدوي في آذاننا نداءات الثأر وصرخات الكراهية والحقد، وعويل الثكالى والمفجوعات الموتورات.. في ايقاعات تراجيدية معجزة، زادت من روعتها بعض الحان واغنيات شعبية اسبانية، ضمنها لوركا مسرحيته هذه.

القصة في الزفاف الدامي هي قصة امرأة فجعت بزوجها، قبل أن تنعم بدفء محبته طويلا، ثم فجعت بابنها.. قضيا قتلا، في دوامة صراع دام قديم بين اسرتين اسبانيتين ريفيتين، بقي لها ولد واحد، كان يحب فتاة تحوم حولها بعض الشبهات، بسبب علاقة غرامية لم تثمر زواجا كانت بينها وبين شاب من الأسرة التي بطشت بالزواج والولد. وكان الشاب يلح على أمه لتقبل بها عروسا له، حتى نزلت الأم عند رغبته غير مرتاحة، وذهبت معه لتطلب يدها من ابيها، في جو عابس مكفهر يزخر بذكريات الأم وأحزانها العميقة. ويقبل الأب، ويتفق الطرفان على موعد العرس، وتعبر الأم عن رغبتها في أن تكون الفتاة خصبة تنتج لوحيدها البنين والبنات، ويصل خبر الخطبة للعاشق القديم المتزوج من امرأة أخرى يكرهها، فيجن جنونه، ويظهر ليلة العرس، في غرفة العروس، فما أن تراه حتى يتأرث في صدرها صراع عنيف بين عاطفتها القديمة نحوه، ورغبتها في أن ترضي كبريائها وتتزوج من خطيبها الجديد الذي يحبها. وأخيرا, تنتصر عاطفتها على عقلها وكبريائها, فتفر مع العاشق بعد الزفاف, وحين يدخل العريس لغرفتها لا يجدها, فيعلم أمه, باذلا جهده لتأويل غيبتها عن غرفتها تأويلا خيرا, لكن الأم تدرك اللعبة, وتقدر أنها فرت مع العشيق, فتتفجر أحقادها الكامنة دفعة واحدة, وتثور ثائرتها على الرجل الذي خطف زوجة ابنها ليلة عرسه, فتعلنها غضبة تنزيل بها جميع الأستار التي جهدت وضعها وتغليف سلوكها بها, وتطلب من شبان أسرتها جميعا, أن يغسلوا العار بالدم, فيذهبون أثر الهاربين, ويجوسون الغابات عبر ليلة مقمرة للبحث عنهما, ويعثرون عليها, فتقع معركة يموت فيها العريس والعاشق .. وتنتهي المسرحية بعبارات تحاول الأم التي فقدت كل شيء عزيز لديها أن تفلسف بها آلامها وتعاستها.

إن روعة القصة تبدو في العرض والحوار والتوترات العاطفية التي تسود أبطال المسرحية , وفي الجو الفذ الذي يرين على مجرياتها, وفي أبرز مأساة الجال الذين اريقت دماؤهم, فكانت غذاء لطحالب الحقد والثأر النامية على جسد الحياة, في أرض قست النفوس عليها, واحتدت العواطف, وفقد كل شيء معناه الجميل, فاذا بالقمر الذي ما برح صنوا للجمال والرومانسية يغدو رمادا كريها وأداة للقتل, وبيلا لتحقيق الجريمة وإراقة الدماء, وغذا بالأرض التي يفترض أن تسقي بماء الحياة لتنبجس خيراتها عطاء للناس, تتحول عند أبطال عرس الدم إلى نشافة ظمآى للدماء .. وحتى الموسيقى المرحة الراقصة، تتحول إلى ألحان جنائزية تشيع بإيقاعها اولئك الذين قتلوا في ليلة يفترض أنها ليلة عرس.

لعبت ثناء دبسي دور الأم، فسجلت كعادتها نجاحا رائعا، وجعلتنا نلاحق انفعالاتها بأنفاس مبهورة، وثناء حن تمثل، تمثل بصدق وإخلاص وبكل جوارحها وأعصابها، وحين تنبثق الدموع من عينيها، نحس أننا أمام دموع حقيقة ملتاعة لأم مفجوعة وزوجة ثكلى، في أعماقها صرخة أبدية، تريد أن تنطلق، وفي كيانها حزن تنبع عبراته من جذور وجودها المأساوي.

وقام أسعد فضة إلى جانب إخراجه للمسرحية بدور ليونارد، العاشق المتزوج الذي خطف الفتاة ليلة عرسها، وقضى شهيد غرامه وأحقاد الماضي، فكان أسعد في دوره مجيدا متفوقا واعيا يصيب كل حركة وكل كلمة في قالبها المناسب.

ولعبت مها صالح دور الفتاة المخطوبة، فسجلت تطورا ملحوظا في مسيرتها المسرحية، وجسدت بإخلاص ذلك الصراع المحتدم في نفس المخطوبة العاشقة. وأدى أحمد عداس دور السائلة العجوز التي كانت ترمز للموت، فأثبت أنه ممثل كبير، واستطاع أن يؤدي رمزية الدور بنجاح، وإن يرينا الجريمة التي وقعت في النهاية من خلال حركاته، وأقواله، بدلا من أن نراها مجسدة على المسرح، كما استطاع أن يثير فينا قشعريرة الخشعة والرهبة من الموت.

وقامت هيلدا زاخم بدور امرأة ليونارد، فأبرزت بنجاح دور الزوجة التي تعلم أنها محرومة من حب زوجها، والتي كرست وجودها لتربية بذرته، وكانت في أدائها للأغنية موفقة لحد بعيد.

أما لينا باتع فقد لعبت دور حماة ليونارد، فكانت موفقة إلى حد ما، وكذلك وقفت هالة شوكت في دور الخادم والعانس التي تذوب توقا لساعدي رجل، وكانت في حركاتها عاملا انتزاع البسمات من خلال الأحزان.

ولعب سليم صبري دور الولد الخاطب، وسليم، مثل ثناء، له طابعه المميز على خشبة المسرح، يظل معه مهما تنوعت أدواره، وقد نجح في أدائه للدور. ولهب يوسف حنا دور القمر وهو دور رمزي ليس سهلا، وتمكن بموهبته من إبراز المغزى الذي رسم للدور وسجل توفيقا طيبا. أما بقية عناصر التمثيل فثمة من يحتاج منها إلى مران مجهد ليغدو قادرا على مجابهة الجمهور ولعب دوره بوعي ومسؤولية واخلاص.

بقيت كلمة حول الفنيين الذين ساهموا بنجاح المسرحية، وفي مقدمتهم الفنان خزيمة علواني مهندس الديكور ومصممه ومصمم أزياء الشخوص، وقد عودنا خزيمة دائما على تقديم تصاميم الديكور بقالب بسيط مختزل اخاذ معبر، يتغلب على ضيق المسرح وصغر مداخله بحيل فنية ذات ذوق جيد، وفي ديكورات عرس الدم القليلة العدد، أثبت خزيمة أنه فنان يملك الخصوبة والأصالة اللتين تبشران بعطاءات أسمى وأرفع، وحسبنا أن نقول، أن قطع الديكور، كانت رغم قلتها، تبدو في تغيير مواقعها وتبديلها عبر المشاهد السبعة للمسرحية جديدة مبتكرة غير مملة. كما أن اختيار الموسيقى المرافقة وتنفيذها جاءا منسجمين كل الانسجام مع مجريات الأحداث والمواقف والانفعالات والعواطف. وكذلك فقد وفق (الماكيير) إلى حد بعيد في عمل مكياج الممثلين، وأخص بالذكر مكياج أحمد عداس في دور السائلة التي ترمز للموت.