الوميض في أيام سلمون:

بعد البداية، وعند النهاية..

في هاتين النقطتين، تجلت روعة الفن،

أحس بها الفنانون والنقاد وذواقو المسرح، ومعظم المتفرجين.

في المرة الأولى.. نجمت الروعة عن تعارض مشهد قاضي القضاة، مع مشهد ((سلمون))، وكل منهما يملي فتواه.

الإبداع كان – فعلاً – في حركة الانتقال، من المشهد الأول إلى الثاني، وفي انجاز الخطوة المتسارعة، التي وضعت المشاهد مباشرة، في صميم الحركة الدرامية بعد مقدمة ((الراوي)) السردية، وبعد مشهد الغوطة المجامي.

في المرة الثانية… نجمت الروعة، عن ذلك المشهد الاستعراضي، ممثلاً مطاردة جنود الوالي لانكشارية السلطان هنا تبدت الوظيفة التعبيرية للاختزال المسرحي وسبل ذلك، كما بدت مؤشرات التطور الشكلي، المنطلق من ضرورات التعبير.

والذي لا شك فيه أن جودة الاختزال وإيحائيته، وطاقة التحرر الشكلي ومداه، كانا مرهونين بالقدرة على تصميم الرقصات التعبيرية من جهة أولى، وبالأداء المتقن لعناصر ((فرقة أمية)) من جهة ثانية، مثل كونهما مشروطين بجرأة المخرج)) أسعد فضة ((على تقديم مسرحية تداخل الاستعراض في مشاهدها وزخرف الغناء والموسيقى جوانبها.

هل كان هذا من الومضات الإبداعية؟ قبل أن أجيب، أقر أنني تعجلت التصريح برأيي، فقد كان هذا الإحساس بالروعة، بمناسبة عرض مسرحية ((أيام سلمون)) في صالة الحمراء، وهي مسرحية من تأليف الأديب العربي الراحل ((صدقي اسماعيل)) ومن إعداد وإخراج ((أسعد فضة)). صمم رقصاتها ((أحمد رامي)) وصمم ديكورها ((على الحامض)).

    • هل أجيب الآن على سؤالي؟

بلى… وإني أبادر فأقول.. إن ما استعرضته في مقدمتي، كان ومضتي إبداع فني، في خضم من العرض المشوب، بالغموض حيناً، وبالتلفيق الأسلوبي حيناً آخر، وبالانزلاق إلى مشاهد هامشية ومجانية، في أحايين متعددة، وبقصور الأداء في غالب الأحيان.

    • لعلني مطالب بالبرهان؟

لنعد إذن إلى نقطتي الروعة في العرض المسرحي، فبماذا نلتقي؟ نلتقي بأسلوب رمزي، اختزل معطيات الواقع، حركةً وأداءً وموضوعاً، فجعلها موحيات جسدت المضمون بكثافة فنية عالية الشدة، افتقرت لها المشاهد الأخرى. وأقصد بالمشاهد الأخرى كل ما أدي بأسلوب واقعي صرف كمشهد المأدبة مثلاً، وكل ما أدي بأسلوب خليط من الواقعي والرمزي، كمشهد تآمر الآغا الاستعراضي على سبيل التحديد.

ومن الأكيد.. أن هذا التلفيق، كان يضعف وحدة المسرحية أسلوبياً، خاصة وقد رافقته تلفيقات على مستويات أخرى. وأما الغموض.. فسأسوق عليه مثلاً آخر، وهو شخصية الوالي ((سنان باشا)). ترى.. ما هي المبررات أو الدوافع الإصلاحية عند هذه الشخصية؟ طيبة القلب؟ إعادة الأشياء إلى طبيعتها؟ حسن الذكر؟ الوصول إلى الولاية بمحض الصدفة؟ ممارسة الحكم بفعل العناد؟ التحدي؟

كل هذه النقاط بدت واضحة في الشخصية كما عرضت مسرحياً، ورغم هذا ظلت الشخصية غامضة، وغير مقنعة، لسبب بسيط جداً، وهو أن هذه النقاط، ما هي إلا نتائج، أو مظاهر أو مراحل لنزعة محددة وأساسية في الشخصية هي ((نزعة الاقتناء))، وقد بترها المخرج بحدة لموقف- أظنه واعياً له – تاركاً في الشخصية تلك الفجوة من غموض التناقض.

أما المشاهد المجانية التي لا تخدم الخط الدرامي، بل تبدو انزلاقاً في ((الهامشية)) فهي – حصراً-  مشهد محاكمة ((الحسن)) للعاهرة أولاً، ومشهد تبادل العواطف بين ((الحسن)) و ((فاطمة)) ثانياً، ومشهد الغناء في الغوطة ثالثاً، فهل وضعت هذه المشاهد لإرضاء نزعة التسلية عند الجمهور..

    • هل برهنت على رأيي؟ أظن. ورغم هذا، سأتابع ملاحظاتي، لأحصرها بثلاث نقاط:
      • الملاحظة الأولى حين يفتقد المخرج وحدة الأسلوب، فإن من الطبيعي جداً، أن تفلت منه السيطرة، على أساليب الأداء لدى الممثلين، كما تفلت منه السيطرة على تحقيق نوع من الانسجام والإيقاع بين جملة أسالبيهم، وهذا ما حدث فعلاً:
        حين كان ((عصام عبجي)) ينزلق إلى ((الكاريكاتورية))، أو كانت شخصيات ((عبد اللطيف فتحي)) الماضية، تتلبسه في بعض الأحيان، أو لتشده إلى مبالغاتها الإنشائية في أحايين أخرى، وهذا ما كان يسمو بأداء ((عدنان بركات)) و ((منى واصف)) حين التواجد مع الآخرين في مشهد واحد، مع العلم أن روعة الأداء لدى الممثلين الأخيرين، لم تكن ناجمة عن علاقات النسبة والمقارنة، وإنما نجمت عن علاقات التقاط الخصائص النفسية للشخصيات وتأكيدها، وفي هذا التأكيد – كما هو معروف في كل الفنون- سمات الفن، وقيمه التعبيرية.
        انطلاقاً من اعتبارات الأسلوب والتأكيد نتمكن من استشفاف قصور ((مها صالح)) عن أداء دور ((سلمون)) الشخصية المتأزمة، التي تتنازعها شخصيتان، كما تتنازعها عواطف شتى، ومفاجئة أيضاً. إضافة إلى أن هذه الشخصية لن تجد تجسدها الحقيقي، إلا بالمونولوجيات الداخلية، وإلا بأسلوب الحركة الانطباعي وهذا ما افتقدته ((مها)) فعلاً.
        وفاطمة؟ أحب الشخصيات إلى ((صدقي اسماعيل)) الشخصية ((النورانية التي تتجاوز حدود الأنوثة والأمومة لكي تدمغ التاريخ)) والتي ((تارة كانت تبدو لنفسها العقل الذي يفكر به (سنان باشا) والبصيرة التي تكشف له حقائق الأشياء، وتارة كان هو الذي يمثلها دفقة دمه في الشرايين، ونبضات قلبه ((شيء من النظام الأزلي في هذا العالم)) هذه الشخصية ضاعت من المخرج أولاً، ثم من ((فايزة شاويش)) ثانية، ومن المسرحية أخيراً.
        وضاعت شخصية ((الحسن)) أيضاً، ضيعها تخبط المخرج بين خطوطها وارتجاله في رسمها، واستغلاله لها، كي يمنح الجمهور بطلاً، وقد خرج من بين يديه بطلاً مزيفاً، كل أحداث المسرحية تؤكد هذا، وتدحض عكسه، وربما.. لم يقتنع بها إلا ممثل الدور ((بسام لطفي)) الذي لم تكن لديه قدرة الأداء لإنقاذها، ولا الطاقة النفسية لتعميقها، وكان بنقصه كل شيء إلا قناع الغضب، ورتابة الحركة.
      • الملاحظة الثانية: كان الحركة على المسرح مجزأة دائماً، مبتورة في أكثر الأحيان، والأمثلة على هذا القول كثيرة: في مشهد الغوطة حشر الممثلون في الزاوية اليسرى، وكذلك رقصة المولوي في المظاهرة الدينية (فيها أسلوب تلفيقي أيضاً)، كل المشاهد مع الوالي كانت تتم في الوسط، الحركات الاستعراضية تتم في الشريط الأمامي من المسرح.
        هذا التقسيم للحركة أساء للمسرحية، ولم تكن الإساءة ناجمة – على ما أظن – إلا من تصميم الديكور الذي كان واقعياً، حدد حركة الممثلين، وشل إمكانية رسم حركات واسعة متشابكة، تتيح تحقيق تشكيلات جمالية متنوعة، وإبعاد رمزية موحية.
      • الملاحظة الثالثة والأخيرة: إن نص ((صدقي اسماعيل)) يحيط بساحة كبيرة من الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولأنه كذلك.. فقد تميز بشبكة العلاقات المتبادلة والمتداخلة بين شخصيته، وهذا ما يتيح أكثر من أخراج لمسرحية ((أيام سلمون)) دون أن تستنفد.

وأخيراً.. مسرحية ((أيام سلمون)) وإن كانت تملك الجدارة بومضاتها الإبداعية، وتحمل الإرهاصات لولادة شكلية محلية – تثبت أن تحقيق الأسلوبية الناضجة مرهونة بعمل جماعي، كما تثبت أن كل جهد فردي واقع- لا محال- في شباك الفشل، أو على الأقل، سيكون صرخة ضائعة.

عبد الله السيد.