الأخوة كرامازوف

بقلم طارق الشريف

المسرح القومي يحقق نجاحا في تقديمه مسرحية ديستوفسكي الشهيرة

مجرد تقديم مسرحية من هذا المستوى يعتبر انتصارا للمسرح القومي

لا شك في أن مجرد التفكير في تقديم – الأخوة كرامازوف- على مسرح في بلادنا ومن فرقة محدودة الإمكانات المادية والبشرية يعتبر بحد ذاته جرأة عجيبة، قد تصل هذه الجرأة إلى حد عدم التصديق بإمكان النجاح وهذا هو الشعور الأولي الذي يسيطر على الإنسان حين يذهب إلى مسرح القباني ليشاهد المسرحية.

وفي الحقيقة أن الفرق كبير جدا بين تقديم مسرحية لشريدان أو لبن جونسن وهما المسرحيتان اللتان رأيناهما على مسرح القباني وين تقديم الأخوة كرامازوف لأن المسرحيتان تختلفان كل الاختلاف بمستوى النص, وبنوعية الشخصيات, وبالاقتباس ومستوى هذا الاقتباس عن المسرحية الجديدة التي قدمها المسرح القومي إلا وهي الأخوة كراماوزف, وهذا الاختلاف يكاد لا يصدق لشدة التباين بينهما, وإذا أضفنا لذلك اختلاف مستوى التمثيل اختلافا كبيرا بين ما قدم ونراه اليوم تزداد دهشتنا أكثر … لكان الفرقة التي قدمت الأخوة كرامازوف ليست هي الفرقة التي رأينا لها – فولبوني – و – مدرسة الفضائح

    • ليس عملا سهلا

وفي الحقيقة أن تقديم ديستوفسكي من حيث المبدأ ليس عملا سهلا, لان شهرة ديستوفسكي ككاتب روائي تعتمد بشكل أساسي على الشخصيات التي ابتكرها والتي يعتبر كل واحد منها عبارة كلة من الآلام والتمزق, وحيث يبدو كل شخص يعيش في صراع نفسي مع نفسه, قبل أن يعيش في صراع مع الآخرين, وحيث تتولد التناقضات من بعضها, الخير يولد الشر, الشرير تلقى كل الخير عنده, والخير تلمس – في أعماقه وقوعا في كل الشرور حيث لا مجال لانتصار الخير في هذا العالم اطلاقا, بل الانتصار لا يكون إلا في عالم آخر, وشخصيات ديستوفسكي لهذا السبب تبدو عميقة صعبة التمثيل لا تتمتع بلون واحد يستطيع أن يقمه الممثل وهو يشعر بأنه يؤدي واجبه تمام الأداء … إن شخصيات ديستوفسكي لا يمكن أن يكون لها نفس طابع شخصيات مسرحية شيخ المراقبين فلوبوني, إذ إن فلوبوني شخص يمثل البخل , فكرة مجسدة في شخص يتحرك ليكون بخيلا وهذا هو الطابع الأساسي له, وهذه طبعا شخصية مسرحية هزيلة إذا قورنت بشخص لا يستطيع ان تقول ماذا يمثل بالضبط, هل هو خير أم شرير, أنت نفسك في حيرة, وهو يعيش كالبشر الآخرين يتناقض في كل لحظة مع ما كان يريد أن يعبر عنه قبل لحظات بل يعمل أحيانا خلاف ما كان يعتقد, ويهاجم سلوكا طبيعي يستنتج من كلامه هو … لماذا لأنه يعيش كالبشر … ولا يمثل فكرة, وهذا يعني أن شخصيات ديستوفسكي تعيش تناقضات البشر وليست عبارة عن نماذج صنمية لأفكار مسبقة .

وهنا الصعوبة الحقيقية في معرفة مأساة هؤلاء الأشخاص الذين يتحملون الآلام من أجل الحياة بالذات..

    • خلاصة المسرحية

بعد أن أعطينا فكرة مبسطة عن الشخصية عند ديستوفسكي، نستطيع أن نلخص أحداث المسرحية كما يلي: (الأب فيدور كرامازوف, وهو سكير شرير يعيش في تناقضات غريبة ولكن الجنس هو مأساته الأولى له ثلاثة أبناء ديمتري من زوجته الأولى, واليوشا و ايفان من زوجته الثانية, ديمتري هو الأبن الاكبر وهو صورة تشبه الأب إلى حد ما, ولكنه يعيش التناقضات أيضا والآلام نتيجة لعيشه مع أبيه وتحمله رذائله, ومأساة ديمتري والده أولا, وحبه ثانيا حبه الموزع بين غروشينكا الغانية التي تراها خيرة أحيانا, وكاتيا الفتاة الجميلة التي عرضت نفسها عليه من أجل انقاذ والدها, والياشا الذي يمثل الطيبة اللامتناهية, لا يخلو من أن يعيش في متناقضات أخرى إذ أنه جزء من العائلة ووالده هو الشر, وهو ابنه, وأخوه ايفان هو الالحاد المجسد وهو العقل الذي يدين كل شيء مخلوق, ويرفض العدالة في العالم ويرد بطاقة الخلق .

ايفان يعيش أيضا في تناقض هائل إذ أن تعاليمه التي تتسرب سمردياكوف تكون السبب في قتل الأب إذ أن سمردياكوف وهو أبن غير شرعي للأب يقتل أباه – كل شيء محلل – استنادا لآراء ايفان، وتعبيرا عن حقده على الأب الذي ظل يحتقره طوال حياته.. وتنتهي المسرحية بذهاب ديمتري الى سيبريا متها بقتل والده، وذهاب غروشينكا التي تحبه معه وذهاب اليوشا أيضا معه لأنه جاء لتنفيذ وصية معلمه الاب بأن طلب منه أن يتحمل الآلام مع الآخرين ويساعدهم على حملها).

    • التمثيل

 لا شك في أن الممثلين قد قاموا بأداء أدوارهم على نحو جيد بصورة عامة بحيث أن استطاع أكثرهم أن يعطي دوره أو يعطي جزءا من دور في مسرحية لديستوفسكي يعتبر انتصارا كبيرا له.. ونستطيع أن نتناول الممثلين بالتفصيل …

    • أسعد فضة

 سأتحدث عنه في البداية نظرا لأنه المخرج ولأنه أعجبني منذ أن رأيته في مسرحية – فولبوني – إن أسعد فضة يملك موهبة جسدية وصوتية، وهاتان الموهبتان يندر توافرهما معا، لذا فإن على المسرح القومي الاستفادة من إمكانات أسعد لأقصى الحدود ثم إن له سيطرة حين يدخل إلى المسرح وهذه قضية حساسة تلعب دور كبير ويعرف هذا كل ممثل مسرحي.

 لعب – أسعد فضة – دور ديمتري الأبن الكبير الشرير أبن الأب تماما ولكنه الطيب في نفس الوقت الذي يعطي كاتيا الأموال التي تحتاج إليها دون أن يمسها، وهو الذي ربي في بيت فساد كامل، واستطاع أن يعطي صورة حية عن ديمتري، ونستطيع هنا أن نلاحظ ملاحظتان أولهما أن ألبسة ديمتري لم تكن جيدة، حبذا لو ارتدى معطف فرو مثلا أو غيره وثانيهما أن أسعد كان – يسرع في الحوار – وعلى الأخص في الفصلين الأوليين بحيث لم يعد الجمهور يتابعه … وهذان شيآن ليسا على أهمية كبيرة.

    • نهاد قلعي

الأستاذ نهاد قلعي ممثل شهير ومعروف، وقد رأينا له أدوارا عديدة، في المسرح القومي، وهذا الدور الذي قدمه هذه المرة يبدو دورا غريبا عن كل الأدوار الأخرى، دور تمتزج فيه مشكلة السخرية الحادة التي تنبع عن نفس ممزقة بالشر المجسد فيه، لعب دور الأستاذ نهاد بترجيح ناحية الضحك على المأساة، وعلى كل حال ساعدته خبرته الطويلة بالمسرح أن يفرض وجوده … وإن كانت طبيعة الأدوار الطاغية عليه تنسيه أحيانا المسرحية التي يقدمها – أو تنسي الجمهور أحيانا أن الدور الآن يختلف عن الأدوار السابقة. وعلى كل يبقى الأستاذ نهاد ممثل موهوب جدا.. وله طابعه الخاص.

    • خضر الشعار

أعتقد أن دور ايفان هو أهم دور في المسرحية وأن التركيز يجب أن يكون عليه، وأستطيع أن أرى أن المسرحية لم تقدم ايفان كما يجب أن يقدم، ولا أعني بذلك أن الممثل كان فاشلا، ولكنني أعني أنه كان يحاول أن يمثل دورا من أصعب الادوار في المسرح، دور ديسويفسكي الحقيقي، دور إنسان المستقبل الذي بشر به نيتشه، الإنسان الذي لا يحاكم العالم إلا من خلال العقل، والذي يعيش في تناقض مع العالم لأنه يحاكمه بعقله فقط.

وهو لذلك لم يكن إلا صورة مجسدة للتمزق الحاد, التمزق الديستوفسي بأقصى صورة وأشدها عمقا لأن تمزقه يشمل العدالة في العالم كله, إنه كما يروي ديستوفسكي يجمع صورة الأطفال المعذبين ويتساءل لماذا يتحمل الأطفال الآلام دون ذنب, الطفل بريء فلماذا يتألم, إنه يحاول أن يفهم العدالة, من خلال الألم, انهم جميعا يتألمون ولكنه وحده يعاني مشكلة الالم بالذات الألم الذي يربطه مع كل متألم في العالم كله, وهذه صورة للارتباط مع آلام البشر, هي صورة معذبة مقلقة لايفان ولكن التمزق الذي يظهر على ايفان كان يجب أن يكون أكثر قوة وحدة مما بدا .. وهذا يفترض اجراء القليل من التبديلات على فهم شخصية ايفان.. يجب ألا يضع يديه في جيوبه بشكل لا مبالي، وأن تظهر أحيانا باللامبالاة من مشكلة عائلة لا تهمه كثيرا إلا أنه يعاني مشاكل أكثر حدة وأهمية منها. ويبدو أن شخصية ايفان قد مسخت بالمسرحية قليلا فلم يظهر منها إلا الجانب الوثيق الصلة بالعائلة، واختفت كل جوانبها الأخرى التي توضح تمزقها العام، وأن لامبالاة ايفان بما يحدث وعلى الأخص في البداية لا تعني إلا أنه مرتبط بمشاكل أهم بكثير من نزاع أخيه الأكبر مع والده على بضعة آلاف من الروبلات أو على فتاة.. وقد يكون لهذا الخطأ علاقة كبيرة بعدم امكان أخذ كل ما في رواية ديستوفسكي وتقديمه على المسرح، إذ أن المخرج قد استند على الاقتباس فقط فأغفل جوانب كثيرة من شخصية ايفان وقد كان يمكن أن تزداد صلة الممثل بالدور فيما لو وضحت الجوانب الأخرى من شخصية ايفان..

    • رفيق السبيعي

لم أر رفيق السبيعي يلعب دورا ويجيد فيه كما رأيته في سميردياكوف، إن رفيق السبيعي لعب دور حياته بالتأكيد، لقد رأيت له أدوار عديدة في مسرحيات مختلفة، وفي هذا الموسم، ولكنني لم أدهش كما دهشت حين رأيته يلعب هذا الدور.

في الحقيقة استغربت حين قيل بأن رفيق السبيعي سيلعب هذا الدور، وهو دور من اهم أدوار المسرحية، إن لم يكن أهمها، إذ أن سميردياكوف شخصية أساسية، وخفت ألا يستطيع أن يعطي الدور لأنني بصورة عامة أعجب بدور سميردياكوف وأراه من خيرة الأدوار التي ابتكرتها علية ديستوفسكي

ولعل الدور الذي لعبه في مدرسة الفضائح قد أخافني ولكن مشاهدة المسرحية قلب الفكرة رأسا على عقب إن الاختيار كان موفقا وقد لعب رفيق الدور كأحسن ما يمكن أن يلعبه ممثل في بلدنا. وكان يمثل دور حياته

    • هيلدا زخم

هيلدا زخم مرت على ادوار كثيرة, ولكنها لم تحلم في يوم من الأيام أن تمثل دور ( عروشنكا ), وحين ظهرت على المسرح كانت تقابل دوما بالضحك لطبيعة الأدوار التي لعبتها , ولعلها حاولت كل جهدها لتعطي دور من أصعب الأدوار, الدور التي لم تستطيع ماريا شل أن تلعبه كما يجب أن يلعب, ولعل مأساة ( غروشنكا ) في هذه النفسية التي يمتزج فيها الشر والخير معا, والتي تلقي الخير في أعماقها حيث يفترض أن لا يوجد إلا الشر, إنها تحب, ولكنها لا تصدق نفسها بأنها تحب لذلك تقع فريسة سهلة, إنها تحاول أن تنتقم من مأساة حياتها الماضية باهانة – كاتيا – ولكنها تكتشف في كل لحظة كم هي مخطئة, إنها جادة ككل أبطال ديستوفسكي وتعيش التناقضات ولكنها مخلصة حتى أبعد حدود الإخلاص وهذا الإخلاص لا يمكن أن ينكر التناقض أن هيلدا قد قدمت أكثر ما يمكن أن تقدمه وهذا شيء جيد بالنسبة لدور مثل هذا الدور .

    • ثناء دبسي

دور كاتيا من أروع الأدوار التي رسمها ديستوفسكي وأحاطها بهالة من المثالية, ومن التمزق, مثلما كانت غروشنكا من طبيعة شريرة ففتح من أعماقها نبع خير, كانت كاتيا بالنسبة إليه ينبوع حنان لا ينفذ معينه وجملة تضحيات أنها تضحي من أجل والدها, وهي تحاول أن تضحي من أجل ديمتري وتقع في تناقض بين تضحياتها وحبها الحقيقي لايفان وتصل بها المأساة إلى درجة عدم التمييز بين الحب وبين عرفنها بالجميل أو تقديرها لمن أحسن إليها لذلك تسير وهي لا تشعر إلى أين تسير وتص بالتضحيات إلى درجة أن تتناقض مع الخير الذي قصدت بعملها أن تصل إليه, إنها خيرة ولكنها لا تعرف طريق الخير على النحو الواضح فتصل إلى التناقض مع الخير ..

إنها ككل أبطال ديستوفسكي تسعى إلى الخير ولكن الشر يتولد في اعماق الحياة فيمنعها من أن تحققه … وهكذا تعيش التناقض.

أما الممثلة وهي ثناء الدبسي فقد تميزت أحيانا ببعض الحيوية التي تخالف ما عرفناه عنها، وهي إن لم تستطع أن تبدل في أداء دورها إلا أنها كانت مقبولة على وجه العموم.

    • سليم صبري

اليوشا الوديع، الذي جاء يتحمل مع آل الكارامازوف الآمهم أكثر آل الكارامازوف تحملا للآلام بصبر عجيب، ونفس مسيحية، ولعبه سليم صبري بشكل لا بأس به، وأن كانت من المناسب أن تزداد لهجته هدوء لينسجم مع نفسية اليوشا الوديع، لأنه على الرغم من هذه الوداعة وهذا الهدوء ينفجر أحيانا لتظهر فيه نفسية الكارامازوف المتناقض، أن لهدوء الطبيعي في نفسه ضروري لتوضيح الثورة التي قد يلجأ إليها حين يفتقد اتزانه.

وأخير

إن باقي الممثلين أيضا قاموا بجهود لا بأس بها وإن كانت شخصياتهم ثانوية ليست على درجة من الأهمية تستحق أن يكتب عنها.

ولابد لنا بعد ذلك من أن نشير إلى نجاح فكرة الرقصة الروسية التي قدمت أحد الفصول والتي تعكس جو حانة، فالفكرة مبتكرة وجيدة..

وإننا أخيرا نشكر الفرقة القومية على هذه المحاولة الجيدة التي تعتبر قفزة إلى الأمام في المسرح في بلدنا ونتمنى أن تتبعها خطوات أخرى كي نرى مسرحنا وقد تطور تطورا ملموسا باتجاه مسرح حقيقي جدي يثقف الجماهير ويوطد دعائم جمهور مثقف يقبل على المسرح من أجل المسرح بالذات!

الأخوة كارامازوف

عمل مسرحي ضخم تصدت له ” فرقة المسرح القومي ” بثقة

ماريا شل دمشق تنتزع البطولة مع رفيق السباعي ونهاد قلعي

بقلم عبد الله الشيتي

إن مجرد تفكير فرقة (المسرح القومي) بتقديم رائعة (دستويفسكى) جرأة نادرة وشجاعة خارقة.

وإن القيام بهذا العبء الفني الجبار فيه تحد مباشر لشيء أسمه (المستحيل)!

وأكثر من هذا، فإني اعترف انني ترددت بادئ ذي بدء، في مشاهدة آثار هذه الجرأة، وذلك التحدي.. ووقفت حيال أسم المخرج الجديد الشاب (أسعد فضة) موقف المتشكك الحائر المتسائل:

    • كيف يمكن لهذا العنصر الفني (المستجد) في أعمال الاخراج المسرحي أن ينجح ولو قليلا في تقديم (دستويفسكى) بلحمه ودمه على مسرح صغير, وبإمكانات فنية متواضعة ؟

وظلت علامات الحيرة والتساؤل مرتسمه على وجهي.. قبل أن اتخذ موقعي وسط مئات الاخرين من جمهور دمشق الذين كانوا وهم في سبيلهم إلى مقر المسرح، يقدمون رجلا، ويؤخرون أخرى، مخافة أن يصدموا ب(الخيبة) و (الفشل)!

وهمس في أذني زميل أديب:

    • هل تعتقد أن بإمكاننا أن نشاهد الآن نموذجا مقبولا ل (ماريا شل) و (ولى جيكوب) و (يول برينر) الذين تقاسموا بطولة فيلم (الأخوة كارامازوف) ؟

قلت من قبيل (التفاؤل) وحسم الجدال:

    • ربما. أعتقد ذلك! لنر الآن.. لننتظر (النهاية)!

وارتفعت الستارة عن الفصل الأول.. ووسط لهفة وصول الحضور، وفي مقدمتهم فيض من المشتغلين بالقلم والفن.. والناس!

جو القصة!

التناقض والحيرة والازدواج والآلام والشخصيات القلقة الغريبة التي ابتكرتها مخيلة (دستويفسكي) هي السمات الأكثر بروزا في العقلية والنفسية (الكارامازوفية).. وهي الصفات الأكثر لصوقا بواقع الشخوص المتصارعين على خشبة المسرح وخشبة الحياة!

إن (الأخوة كارامازوف) إذن، زاخرة بالعقد، والتحليل النفسي، والمعاني غير المباشرة، والصور المتلاحمة المتلاحقة.. وكلها صور حية، كانت تصرخ في آذاننا أو تصرخ، وترقص أمام أعيننا وتتلوى!

قد لا يكون من المستحسن تلخيص أو تكثيف (الأخوة كارامازوف) في السطور التالية، رغبة منا، في أن نفسح المجال أمام القارئ أن يقرأ رائعة (دستويفسكي) مباشرة ويعي واقعها وخفاياها ويعيش متعتها واسلوبها، لأن التشخيص كثيرا ما يفسد الأثر، وكثيرا ما يكون فيه انتقاص وتشويه للنص، ولاسيما في مثل هذا العمل الروائي الضخم الذي تتجاوز ترجمته الحقيقية الامنة مئات الصفحات.

(فيدور كرامازوف) سكير عربيد مستهتر، وشرير متصاب، حياته مجموعة تناقضات غريبة، والجنس والتهافت على النساء، ولو كن محبوبات ابنائه، مأساته الأولى وشغله الشاغل.

ولهذا العجوز المتصابي، صاحب العقلية المروضة بالكثير من العقد والمتناقضات والأهواء، وصاحب الشخصية المحمومة المهزوزة ثلاثة ابناء هم: ديمتري من زوجته الأولى و(اليوشا) و (ايفان)، من زوجته الثانية. و(ديمتري) الابن الأكبر. و (سمردياكوف) الأبن غير الشرعي، المخبول المعقد، ابن الشحاذة المنبوذة التي اعتدى عليها الأب الشبق في لحظة ظمأ جنسي.

(ديمتري) أيضا له بعض ما لأبيه من الصفات المستهجنة، أولها مشكلة النساء. وهو يحب في الوقت نفسه اثنتين مختلفتين تماما.

(غروشينكا) الغانية اللعوب. و (كاتيا) الفتاة الجميلة التي عرضت على ديمتري نفسها وحبها من أجل انقاذ والدها.. ويبرز الصراع أيضا بين الأب وديمتري من اجل الحظوة ب (غروشينكا) اللعوب التي تؤثر ديمتري اخيرا لطيبته بعد أن يتهم بقتل أبيه ويسجن في (سيبيريا) فتلحق به (غروشينكا).

ويعود (اليوشا) الراهب الصغير المبتدئ إلى الجو (الكارامازوفي) لينفذ وصية معلمه الأب الكبير حين طلب منه في الدير أن يتحمل الآلام مع الأخرين ويساعدهم على حملها وتجاوزها.. ويكون (ايفان) العقل المدبر والمخطط والالحاد المجسد، قد أشرك (سمردياكوف) أخاه المخبول المشوه غير الشرعي في قتل الأب الذي ظل يحتقره حتى النهاية.

    • ديمتري.. وأسعد!

المخرج أسع فضة هو نفسه أحد أبطال المسرحية، وقد لعب دور (ديمتري) فكانت مهمته شاقة، الإخراج والتمثيل، ولكنه بدا كمخرج أنجح منه كممثل. ربما لأنه قصر مطلق عنايته وخبرته على انجاح أدوار سواه من الممثلين وربما لأنه كان يطل من خلال كل بطل من أبطال المسرحية.. ويقف وراء كل حركة من حركاته، وكل كلمة يفوه بها.. كان واضحا ان أسعد لم يبخل بجهد ولا بطاقة. ولقد رأيته يجري عدة تغيرات وتبدلات في بعض المواقف والحركات المسرحية يوما بعد يوم، بحيث أمكن له أن يستكمل أسباب نجاحها إلى حد بعيد، وأنوه أيضا بتوفيقه التام في اسناد العديد من الأدوار إلى الشخوص التي رأيناها تعيش بيننا، وتتحرك أمامنا.. وتنقلنا بصدق وحرارة إلى واقعهم ومشكلاتهم. أجل وفق أسعد في رسم الطابع المميز تقريبا. وأصاب حظا لا بأس به من التوفيق، في قيامه هو شخصيا بدور ديمتري وقولا بعض الهنات الطفية، والأخطاء غير الملحوظة تماما والتي ربما سقطت عفوا أو سهوا أو إهمالا.. كعدم تواؤم الحوار مع الحركة، وكإمعانه هو نفسه في سرعة الكلام بحيث كان في معظمه يبدو جملة متصلة مستمرة، وبنفس واحد وعلى وتيرة واحدة من التوتر والهياج وارتفاع الصوت! فضلا عن ان بعض أعمال الإخراج غلبت عليها في بعض المواقف الرئيسية مسحة من العجلة، كما في الفصلين الأخيرين. ومسحة من بطء واملال كما في المدخل خلال مستهل الفصل الأول الذي عاد فكثفه لأبعاد الإسهاب المخل عن روح التشويق، وعنصر المفاجئة والعقدة القصصية، ولم يوفق المخرج كذلك في إعطائنا شخصية (ايفان) الملحد الداهية.. أو إن (خضر الشعار) هو الذي لم يوفق تماما. كما لم يكن ثمة ما يبرر تقلص وجه (ايفان) واحتقان عضلاته طوال الدور كأنه وجه مطاطي فقد التأثير، ولم يحسن التعبير أو الانفعال الداخلي المقبول.. أو المعقول. كان دائما وفي معظم المواقف يضرب على وتيرة واحدة من الافتعال، وليس الانفعال!

وهذا اللباس الذي ارتداه (ديمتري).. هذا المعطف كأنه من مخلفات (سوق العتيق) هو يليق بدور ديمتري، الرجل المغامر الجريء، والشخصية البطلة المتمكنة المتميزة عما سواها من الشخصيات البارزة الواثقة؟ كلمة أخيرة لأسعد: لقد كنت موهوبا حقا ولا أقول (محظوظا) حين أعطيت دمشق نتاج (الأخوة كارامازوف).. فتحديت. وانتصرت رغم كل شيء!

    • رفيق سبيعي: في أعظم أدواره

ما رأيت (رفيق) قط مثلما رأيته ينتصر على نفسه، وعلى غيره، في دور (سمردياكوف). التعبير المثير. الحركة الذكية. اللهجة المتوافقة. العقدة النفسية. والعقدة الجسدية. لقد ملأ رفيق المسرح بملامح وظلال (سمردياكوف) فشخصت إليه الأبصار وتشوقت العيون باستمرار. لم أصدق أن هذا نفسه (أبو صياح) صاحب الأغنية الشعبية الشهيرة (يا ولد الفلك شال). لقد عرفت رفيق مبدعا في المسرحية العالمية (حرامي غصب عنه) من سنوات طويلة، لكنني لم أكن أنتظر أن أعرفه وأراه بطلا عملاقا مثقفا ثقافة فنية صقيلة، وملموسة كما في (الأخوة كارامازوف). جميع من راه وشد على يده مهنئا اجمعوا أنه كان (بحكم خطورة ومسؤولية دوره) بطل المسرحية بلا منازع.. وظل هو يبتسم.. ويشكر.. ويتواضع. علقوا على صدر رفيق وساما لأنه يستحقه عن جدارة. ومثل هذا الوسام للمخرج ولنهاد قلعي. ثالوث النجاح، والعمود الفقري للمسرحية

    • نهاد قلعي: بدور (فيودور)

لو كان نهاد في (هوليود) يوم تصوير فلم (الأخوة كارامازوف) لكان اختيار مخرج الفلم قد وقع عليه فعلا، لم يصدق أحد نهاد قلعي قد تألق عالميا، وهو بعد هنا في.. دمشق يلعب الدور على مسرحية صغيرة.. ولم أكد أصدق ان نهاد (سيد مسرح) بهذا الشكل!

أما أنا فأقرر حقيقية: وهي أن نهاد قلعي ورفيق السبيعي كانا وحدهما المرنين المنسجمين مع دورهما لكنهما خلقا لهما قيل إن يخلقا.. إن الاحتراف له فضله ومردوده في نجاح هذين الفنانين، ومثلهما من النساء: هيلدا وثناء.

      • كان على رفيق أن لا يزيد في انحناء كتفه المفتعل.
      • وكان على نهاد أن يفرط أكثر في الشراب (والنعنعة). و (العربدة) حسبما أراد دستويفسكي في روايته!
      • كان على المخرج أسعد فضة أن لا يظهر (سمردياكوف) حين الشروع بالقتل. لقد ضرب صلب العقدة وتوتر المسرحية ومفاجآتها المقبلة.. ولو أكتفى بأطلاق صيحة من وراء الستارة لكان أجدى!
    • خضر الشعار

قام بدور (ايفان) أخطر دور في المسرحية. ولكنه ظل في كثير من المواقف يراوح مكانه دون جدوى. لقد كان يؤدي الدور من خارج تماما. في حين أن الدور عميق ودقيق لا يؤدى إلا من الداخل. اعترف أنه بذل مجهود طيبا كي يكون مقبولا على الأقل.. لكن فاتته فرصة النجاح هذه المرة!

    • هيلدا زخم بدور (جروشنيكا)

لا أكون مغاليا إذا قلت إنها ضاهت ماريا شل في قيامها في هذا الدور أو قاربتها. بل ان ماريا شل نفسها اعترفت في حديث صحفي لها ذات يوم. بأنها (توهمت) من الدور، وخافته كثيرا وأنها لا تصدق إذا كانت قد أدته بنجاح.. هيلدا زخم خلقت لتكون ممثلة مسرحية و. سينمائية. تلك موهبة من الله لا حيلة لها فيها!

    • ثناء دبسي بدور (كاترين)

قدر لها أن تنافس (هيلدا زخم) في انتزاع البطولة النسوية في المسرحية. كانت نفسيتها الطيبة الهادئة ملائمة للدور المثالي الحائر الذي رسمه (دستويفسكي) فكما أن هيلدا نجحت في تأدية دور الغانية اللعوب والداهية الخبيثة و. الوفية أخيرا.. كذلك فقد نجحت ثناء في دور الفتاة الوديعة القلقة المتحسبة المترددة والمتناقضة أحيانا، ككل شخوص المسرحية التي كانت طوال الوقت تعيش في بحران من الآلام والعذابات النفسية والإضرابات الذهنية والتمزق والقلق والبحث عن الحقيقة.. عن الله! وعن.. الإنسان!

    • سليم صبري بدور (اليوشا)

دوره دور الفتى الغض الهادئ النظرات. الوادع المحب للخير والإنسانية والذي يهرب من متناقضات وجحيم الأسلوب (الكارامازوفي) إلى دير هادئ صغير وادع مثله.. لقد أثر أخيرا أن يتحمل بنفس مسيحية خالصة آلام الأخرين من أخوته.. وأدرك أن الآلام العظيمة تصنع النفوس العظيمة.. لقد كان دور سليم من أنجح ادواره هذا العام أيضا بيد أن مزيدا من المرونة مع الدور كان يلزمه..

وانوه _ هنا _بأدوار (جريجوري) وقد لعبه بشار القاضي (وموسيا لوفيتش) ولعبه طلحة حمدي و (اندريه) ولعبه محمود جركس و (فروبلسكي) ولعبه سليم حانا وكان كعادته فكها مستظرفا أضحك الجمهور بعفوية.. ثم أنور المرابط بدور (تريفون) وابراهيم كردية بدور (رئيس البوليس) ورضوان الساطي بدور الأب (زوسيما) وكان موفقا حقا في اللهجة والأداء.. والحركة المسرحية.. إن البطولة لم تكن فردية، ولكنها جماعية

الأخوة كارامازوف.. والتلفزيون

بقلم عبد لله الجندي

شاهدت مسرحية (الأخوة كرامازوف) المترجمة عن مسرحية فرنسية أخذت عن رواية دوستويفسكي العظيم، والتي لها نفس الاسم..

ولا شك أن المسرحية التي لا تصل في روعتها حد الرواية الأصلية، كما أن الفيلم الذي أخذ عن نفس الرواية، رغم عظمته كفيلم كان يعد مسخا إذا ما قيس بالرواية نفسها.

ولكن ما ملأني سرورا هو حضوري لهذه المسرحية في بلدنا، إن اقدام فرقة المسرح القومي على تمثيلها هو بحد ذاته مغامرة جريئة، ذات دلالة عظيمة.

فكيف، وقد شاهدنا تمثيلا كان في أغلب المسرحية تمثيلا بالفعل؟

قد يجد الناقد المدقق ألف نقص، في الإخراج والديكور والتمثيل حتى في فهم الشخصيات، والمسرحية أحيانا.

ولكن، من ينظر إلى ظروف بلدنا من هذه الناحية بالذات.. ومن يعرف أن الفرقة ما تزال نسبيا في بدء نهضتها يشعر بشيء من الاعتزاز بالمسرح في بلدنا..

لقد بذل المخرج والممثلون وكل من ساهم في صنع هذه المسرحية جهدا جبارا ليقدموا إلينا وربما لأول مرة عملا ثقافيا محترما.

والذي يعجب، أن جمهورنا لم يخيب الأمل، فقد امتلأت وفي كل الحفلات مقاعد المسرح بالمشاهدين.. وكانوا على مستوى الجو المسرحي بلا شك.

إن دولة ليس فيها نهضة مسرحية لا تسمى دولة هذه فكرة معروفة كثيرا.. وبوسعي أن أتفاءل من خلال ما رأيت.. بل إنني أشد على يد أعضاء الفرقة القومية مهنئا ومن كل قلبي.

مرة أخرى أود أن أتحدث عن واحدة من أجهزة اعلامنا، وهو التلفزيون، ولست أدري من أجرح بصراحتي اليوم.. لقد ظللت ساكتا عنه شهورا طويلة، على أمل أن يتغير أو يتطور، وبما أن الكثير يعدونني ظالما مسؤولا عن بعض ما فيه، فلا بد من نقده، حتى لو أصابني شيء من التهمة.

ما هو الانطباع الذي يأخذه إنسان يعود إلى بلدنا بعد سفر سنة، ويشاهد برنامج أسبوع في تلفزيوننا، وقد مرة على الثورة ما يقارب سنة؟

إنه يشاهد شعارات الثورة تظهر على الشاشة من حين إلى حين كما تظهر الإعلانات، ولكنه لا يلبث أن يعرف أن كل ما عدا تلك الشعارات تقريبا، لا يمثل من الثورة شيئا، بل لعله يرى أن البرنامج أكثر رجعية وبرجوازية مما كانت عليه في عهد تلفزيوننا الأول.

وذلك ما يجعل هذا التلفزيون مثل اولئك الذين يرفعون شعارات لا يؤمنون بها، فهم يقولون شيئا ويفعلون غيره إن لم يكن عكسه أحيانا.

أما من المسؤول عن ذلك، فما يمكنني التحديد!

لعلها روح التملق لطبقة من الناس مهمتها أن تتسلى أولا، لعله الارتزاق والكسب ولو بالتهريج، ولعلها عقلية بعض المسؤولين، الذين ما أحسوا ولن يحسوا بمعنى التفكير أو لعمل ثوري، لعله، ومن يدري، عدم وجود معدي برامج في مستوى الثورة.. المهم، انني كمشاهد أرى أن تلفزيوننا ويا للأسف في حالة الحاضر، وكما يمكن أن استقرئ من الواقع، لا يعني شيئا في عهد يسير على طريق الاشتراكية على الأقل.

أما ما هو الحل، فهذا ما أترك الجواب عليه للمسؤولين وربما لغير المسؤولين؟